تقدم لنا المصادر اليابانية صورتين متمازجتين للواقع الياباني؛ صورة مستمدة من التراث الآسيوي وتتمثل في الفلسفات والتقاليد الآسيوية، وصورة مستمدة من التراث الغربي وتتمثل في التقنية والعلوم الحديثة وتوظيف ذلك التراث الفلسفي والعلمي والتقني في أعلى مراحل نضجه.. قضيت سنوات طويلة في دراسة اليابان كجزء من تخصصي لقارة آسيا وذلك في جامعة سيتن هول seton hall في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولقد لفت انتباهي أثناء دراستي مشروعين حضاريين كبيرين تبنتهما اليابان في حقبتين زمنيتين مختلفتين يفصل ما بينهما الحرب العالمية الثانية وقد توقفت عند تلك المشروعين طويلا. فالمشروع الحضاري الأول قام على قواعد الإصلاحات الحضارية التي قام بها الإمبراطور ميجي قبل الحرب العالمية الثانية والتي أحال فيها اليابان إلى دولة مؤسسات فقد نقلها ميجي من النظام الإقطاعي الزراعي إلى النهج الرأسمالي الصناعي ومن دولة تقليدية معزولة نائية تقع ما بين المحيط الهادي وبحر اليابان إلى نموذج اقتصادي عالمي. فقد أطلق الإمبراطور ميجي ما يعرف (بالحكومة المستنيرة) فقام بتوظيف واستقطاب العقول المفكرة من دول الغرب الصناعي وأحاط نفسه بكبار الخبراء والمستشاريين العالميين فأحضر من الغرب أكثر من ثلاثة آلاف مفكر وخبير ومهندس لتحديث اليابان. وأوفد كبير مستشاريه ايواكورا تومومي على رأس بعثة علمية وفنية وتقنية للوقوف على أحدث ما وصل إليه الغرب، ونقله إلى اليابان. ولم يتوقف عند ذلك فأوكل إلى الخبراء الألمان وضع أسس ونظام التعليم وأسند إلى الخبراء البريطانيين تحديث القوات البحرية وإلى الخبراء الفرنسيين تطوير القوات البرية وسلم تطوير الصناعة إلى الخبراء الصناعيين البريطانيين. وفي الاقتصاد اتجه إلى الخصخصة وبدأ بالعائلات الصناعية الكبيرة أمثال ميتسوبيشي ومن ثم اتجه إلى الترجمة فنقل العلوم والآداب الأوروبية الحديثة فأصبحت اليابان في عهده دولة عصرية وإحدى أقوى الدول في العالم. لقد قام ميجي بثورة إصلاحية شملت بنية المجتمع الياباني قامت ركائزها على المبادئ الخمسة: والتي من بينها إلغاء الطبقية الاجتماعية والنظام الإقطاعي وأقر إلزامية التعليم والتثقيف العصري فكراً وتقنية ونقل الأفكار الحديثة والعلوم العصرية والتكنولوجيا من أي مكان من العالم.. وتذكارًا وتخليداً له أطلق اسمه على أكبر معبد للشنتو في اليابان (معبد ميجي) الشهير في طوكيو. أما المشروع الثاني فقد كان بعد الحرب العالمية الثانية والذي كان يقوم على دمج التقاليد الآسيوية مع الحداثة الغربية فمع تشكل العالم الحديث تبنت اليابان استراتيجية جديدة تقوم على الانفتاح على مختلف الثقافات العالمية فنقلت من محيطها الآسيوي التعاليم والفلسفات التقليدية كالطاوية والكونفوشوسية وجاءت إليها البوذية مهاجرة بعد أن ضايقتها الهندوسية في شبه القارة الهندية وأكملت اليابان حلقات الانفتاح والتحديث بنقل التكنولوجيا والتقنيات والعلوم الحديثة والكشوفات العلمية من الغرب.. فقد شكلت اليابان هيئة علمية عليا لدراسة هذا المنقول ونقده ومحاكمته علميا وعقليا وموضوعيا واستيعابه وإدخاله في النسيج المجتمعي والثقافي. فانتقل الإنسان الياباني فكرا وتقنية من المحلية اليابانية التي كانت محصورة في تقديس الأسلاف وعبادة الأرواح (كامي نوميتشي وتقليد جانشي) إلى الياباني العالمي الذي يقود تقنيات التطور وثقافة وأفكار العصر الحديث، لقد خلقت تلك الثقافات والتقنيات والعلوم الحديثة معايير عالية للإنسان الياباني فأطلقت قدراته ومواهبه المتفردة على أكمل مهارة وإتقان فكان مختلفاً كل الاختلاف عن غيره. وأتذكر أنني مرة سألت أحد زملائنا في قسم الدراسات الآسيوية بجامعة سيتن هول عن سر التفوق النوعي والقدرات الإبداعية التي تظهر على بعض الطلاب والطالبات اليابانيين قال حينها: يرجع ذلك إلى الذهنية اليابانية ونظم قواعد التربية اليابانية والتي تتمثل في ملازمة الهدف والقدرة على التنظيم وأعتقد أن اليابانيين يأتون بعد الألمان في إدارة التنظيم. ويقول انتوني روبنز إن السبب يعود لأن اليابانيين خلقوا لأنفسهم قدرات خاصة حول ثقافة النوعية مع توفير مرجعيات عديدة تسند هذه القدرات وقد يدهشك أن التزام اليابانيين بمسألة رفع مستوى النوعية يعود للدكتور ادواردز دمينج الخبير في مجال الأداء والجودة الذي جاء إلى اليابان لاستعادة القاعدة الصناعية اليابانية التي كانت قد تدمرت بسبب الحرب العالمية الثانية، ومن هنا وبناء على طلب من اتحاد العلماء والمهندسين اليابانيين بدأ دكتور ديمنج بتدريب اليابانيين على مبادئ الأداء والجودة والتي تتمثل في أربعة عشر مبدأ والتي تعتبر إلى هذا اليوم الأساس لكل القرارات الناجحة وهي ببساطة التزام مستمر ودائم برفع نوعية الأداء باعتباره العنصر الذي يضمن التفوق وهو في الواقع عملية من التحسين المستمر الذي لا ينتهي والتي حولت اليابان بسببه إلى إحدى القوى الاقتصادية المهيمنة في العالم، وفي اليابان يتم فهم هذا المبدأ فهمًا حسنا وهنالك نظرية تستخدم في ميدان الأعمال وهي كايزن وتعني حرفيا التحسين المستمر مثلاً التحسين المستمر للعجز التجاري والتحسين المستمر لخطوط الإنتاج والتحسين المستمر للعلاقات الشخصية. واليوم تقدم لنا المصادر اليابانية صورتين متمازجتين للواقع الياباني؛ صورة مستمدة من التراث الآسيوي وتتمثل في الفلسفات والتقاليد الآسيوية، وصورة مستمدة من التراث الغربي وتتمثل في التقنية والعلوم الحديثة وتوظيف ذلك التراث الفلسفي والعلمي والتقني في أعلى مراحل نضجه، كل هذا يمثل الإطار المرجعي للثقافة اليابانية. ولكن تظل لليابان خصوصيتها والتي تعتبر من ثوابت شخصيتها. لقد أثبتت آسيا وإحدى ركائزها اليابان بأنها منطقة حيوية تدق أبواب السيادة العالمية على خلاف ما يظنه الغرب بأنها مجرد قارة جامدة.