كثيرٌ هم المُترجمون الذين يهتمون بترجمةِ الرواياتِ والقصصِ ويترجمون التاريخ، وينقلون الثقافات من لغةٍ لأخرى، وكثيرٌ أولئك الذينَ لهم اهتماماتٌ في أنماط الترجمةِ المتعددة؛ إلا أنّ ترجمةِ الشعر من لغةٍ لأخرى؛ وبالأخص إلى اللغة العربية من أصعب أنماط الترجمة؛ ذلك أنّ الشعر باللغةِ العربية له جرسٌ خاص، وقافيةٌ وتذوّق من السامعِ؛ فيحتاجُ إلى مزيدِ درايةٍ وفقهٍ وموهبةٍ في الشعرِ أيضًا، وكيفَ إذا كان المترجمُ في مقتبلِ عُمِره؛ بل ما زالَ في خطواته الأولى، ولم يبرح جامعته أو محضنه التربويّ بعد، ولم ينل شهادة الاجتياز. حضرتُ احتفاليّةً في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن لتتويج المتسابقين والمتسابقات من طلاب وطالبات أندية اللغات والترجمة في جامعات المملكة العربية السعودية، والتي تهتم بالأنشطة الطلابية وتنظيم ورش العمل وإقامة الفعاليات والمسابقات. ولقد دُعيَ لهذه الاحتفالية شُعراء وأدباء ومثقفون ومن له اهتمامٌ بهذا الجانب. ولقد تنافسَ عددٌ من أندية جامعات المملكة العربية السعودية؛ ليخوضوا هذه التجربة الأولى. وكان الاحتفال في قاعةٍ عظيمةٍ في جامعةٍ عظيمةٍ هي جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، ومما يلفتُ الانتباه أنّ أعضاء نادي ويكيبيديا في كلية اللغات هم القائمات على إعدادِ وتنظيمِ هذه المسابقةِ. وتعودُ بي الذاكرة إلى عام 1388ه؛ عندما كنتُ طالبًا في الصفِ الثاني متوسط؛ وكان أخي محمد الذي يكبرني سنًا يدرسُ العلوم البحريّة في كراتشي بدولة باكستان، ولقد رأت والدتي -رحمة الله عليها- ما قضّ مضجعها، وانتابها شعورٌ أقلق راحتها، فأمرت أخي الأكبر سليمان أن يبعثَ برقية لأخينا لعلّ وعَسى يردُ ما يثلجُ الصدرَ، فذهبت بمعيّة أخي إلى مركز البرق والبريد بالمربع، بالقربِ من مدرسةِ اليمامة الثانوية، وقد كتبنا بعض الكليمات وعندما رآها مأمور البرق والبريد؛ قال لابُد من ترجمتها، فأُسقِط بأيدينا، وكيفَ السبيلُ إلى ترجمةِ تلكم الكلمات، وحينما رأى وجلنا أشارَ إلى أنّ هناك معلم لغة إنجليزية بثانوية اليمامة يسكن بالقرب منها، فلعلكم تبحثون عنه؛ فذهبنا نتحسس ونسأل عن ذلك المعلم الذي لم نجد له سبيلاً، فالتفت إليّ أخي بنظرةٍ غضبى، أنت بالثانية المتوسط؛ ألا تعرف شيئاً من اللغة الإنجليزية، فأشرت إليه أن بلى. فقال ماذا تعرف؟ فقلت How are you?. فسألني ماذا تعني؟ قلت (كيف حالك - وشلونك -)، فقال هذا ما كُنا نبغِ، أتعرف تكتبها؟ فقلت لعلّ وعسى، فكتبتها بيدٍ مُرتجفة، ودفعناها إلى مأمور البريد، وعُدنا إلى البيت، فألفينا والدتنا لدى الباب التي بانَ قلقها ووجلها من تأخرنا. اليوم، وما أدراك ما اليوم، في عامِ 1444ه، وبعد مُضي 56 عامًا، وهي سنواتٍ وإن كانت طويلة إلا أنّها قصيرة في حسابِ الدول، نرى الفتيات يمتطينَ صهوةِ هذه القاعةِ العظيمة في هذه الجامعةِ العظيمةِ في هذه المملكة العظيمة العُظمى، فتدمعُ العين فرحًا وابتهاجًا، ولعلّ عُذري كما قال عُمر بهاء الدين الأميري: قد يعجب العُذّال من رجلٍ يبكي.. ولو لم أبكِ فالعجبُ هيهات ما كل البُكاء خَوَرُ.. إنّي وفي عزمُ الرجال مواطنٌ مُحبُ - مع اعتذاري للشاعر بهاء الدين وفي هذه اللحظات، نرفع الأكف لله شكرًا، ومن ثمّ الشكر لمملكتنا ولمؤسسها المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، ولملوكها؛ حتى هذا العصر الزاهي الزاهر الحاضر، عهد خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده القويّ الأمين، صاحب السمو الملكيّ الأمير، محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولنردد سارعي للمجدِ والعليا، مجدي لخالق السماء، وارفعي الخفّاق أخضر، يحمل النور المسطر، رددي الله أكبر، يا موطني، موطني قد عشت فخر المسلمين، عاش الملك للعلم والوطن.. نعم عاش الملك وولي عهده للعلم والوطن، فهذه الإنجازات العظيمة لم تأتِ من فراغ، بل جاءت بتوفيقٍ من الله، ثم جهدٍ وتخطيطٍ، إذ منذُ سنواتٍ يصعب أن تجد من يترجم كلماتٍ بسيطة، واليوم يتسابق المتسابقون، ويتنافس المتنافسون في ترجمةِ الشعر من اللغات الحيّة، من اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية إلى لغتنا العربية الجميلة؛ تزامنًا مع عامِ الشعر العربي 2023م. هنيئًا للفائزين وللمتسابقين، والشكر للقائمين على هذه المسابقة، من مشرفين ومحكّمين، والشكر كل الشكر لجامعةِ الأميرة نورة بنت عبد الرحمن ممثلةً برئيستها معالي الأستاذة الدكتورة إيناس بنت سليمان العيسى، والشكرُ موصول لكلية اللغات بالجامعةِ ممثلةً بنادي ويكيبيديا للترجمة على تبنيّ مثل هذه المُسابقات، التي تُثير الحماس والمُنافسة وترفع الهمم بين الطلاب والطالبات، وليبقَ تُرجمان الشعر في عامِ الشعرِ العربيّ أنموذجًا يُحتذى للفعاليات والمسابقات التي تثري الحضارات والثقافات.