الرياض تدركُ أن تقدم رؤيتها الطموحة داخلياً يحتاج لبيئات إقليمية مستقرة، وأن صعود الاقتصاد السعودي وقوته مرتبطان بالمنظومة التي تحيط بهما، ولذا، هذه المنظومة يجب أن تكون مواكبة للتغيرات التي تحدث في المملكة، منسجمة معها، مساعدة لها، وليس على التضاد منها.. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والرئيس السوري بشار الأسد، كلاهما تحت سقف واحد في القمة العربية ال32 بمدينة جدة، غرب السعودية. في السياق ذاته، الرئيس الروسي فلادمير بوتين يوجه رسالة إلى "قمة جدة"، جاء فيها أن "روسيا تعلق أهمية كبيرة على تطوير العلاقات الودية مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، كان مشرفاً بشكل مباشر على ترتيب عودة سورية إلى العمل العربي المشترك، وجعل الخلافات بين الرياض ودمشق في حدودها الدنيا، والعمل على حل الملفات العالقة عبر الحوار المباشر، ورسم استراتيجيات فعالة، بعيداً عن الشعارات التي ترفعها الجهات المؤيدة أو المعارضة للنظام في سورية. لقد أرادت السعودية أن تكون القمة إعلاناً عن سياسة منفتحة على مختلف الأطراف، تبنى على المشتركات حتى لو كانت صغيرة، وتحيدُ الخلافات دون أن تقفز عليها، بل تسعى لإيجاد صيغ حلٍ غير تقليدية، وإن أخذت وقتاً؛ إلا أن كل مشكلة لها حلٍ ممكن عن طريق الدبلوماسية، والتي ليست باباً واحداً، بل أبواباً متعددة، سواء من خلال الاقتصاد أو الأمن أو السياسة أو الثقافة وسواها. ما يلفتُ النظر في الأداء السعودي خلال "القمة" أنه ابتعد عن بلاغة الحرف وإطناب القول، إلى الاختصار والذهابِ مباشرة إلى العمل، وهذا ما كان واضحاً في كلمة الأمير محمد بن سلمان، الذي أكد "أننا ماضون للسلام والخير والتعاون والبناء، بما يحقق مصالح شعوبنا، ويصون حقوق أمتنا، وأننا لن نسمح بأن تتحول منطقتنا إلى ميادين للصراعات، ويكفينا مع طي صفحة الماضي تذكر سنوات مؤلمة من الصراعات عاشتها المنطقة، وعانت منها شعوبها وتعثرت بسببها مسيرة التنمية". هذه العبارات هي بمثابة مفتاح لفهم الدبلوماسية السعودية الحالية، والتي تسعى ل: السلام، البناء، التعاون. وهذه الأهداف لا يمكن أن تتحقق إذا استمرت الصراعات والحروب! إن النزاعات المسلحة التي أعقبت مرحلة "الربيع العربي" استنفدت مئات مليارات الدولارات من ميزانيات دول الشرق الأوسط، وأدت إلى دمار شمل أكثر من دولة عربية، فضلاً عن القتلى والمشردين الذين تستمر معاناة الملايين منهم خارج أوطانهم. الرياض تدركُ أن تقدم رؤيتها الطموحة داخلياً يحتاج لبيئات إقليمية مستقرة، وأن صعود الاقتصاد السعودي وقوته مرتبطان بالمنظومة التي تحيط بهما، ولذا، هذه المنظومة يجب أن تكون مواكبة للتغيرات التي تحدث في المملكة، منسجمة معها، مساعدة لها، وليس على التضاد منها. الأمن الإقليمي، ليس مصلحة لدول الإقليم وحسب، بل هو مصلحة قومية ووطنية سعودية بالدرجة الأولى؛ من هنا، السياسة الخارجية هي الآن في اتساق مع مستهدفات رؤية المملكة 2030، لكي يكون هنالك تكامل في الأداء بين مختلف الأجهزة الحكومية. إذاً، السعودية تسعى لأن توقف هذه الصراعات المحيطة بها، وأن توجه مواردها المالية وإمكانات الدول الصديقة نحو التنمية، لأن المليارات التي تستخدم في الحروب، يمكنها أن تذهب عوض ذلك إلى دفع "رؤية المملكة 2030" وخلق مزيد من فرص العمل وتنويع مصادر الدخل وتحقيق طموحات المواطنين وتحسين مستوى جودة حياتهم؛ وهذا أحد محددات السياسة الخارجية السعودية، التي بدأت فيها الرياض بذاتها، من خلال دفع خصومها إلى الحل السياسي بعيداً عن المواجهات العنيفة. السعودية هنا لا تقدم نصائح نظرية، عبر أخلاقيات عامة في السياسة، وإنما بدأت عملياً بنفسها مع الجيران من حولها. فهنالك مسار جاد للتعاون والسلام بين الرياض وطهران، وهنالك جهود سعودية بعيدة عن الإعلام لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء في اليمن، وهنالك ترتيبات في العراق، كلها تنهض بها الرياض لتحقق بذلك أجواء الهدوء التي تخدم نظرتها السياسية والأمنية والاقتصادية، فضلاً عن وساطتها في الملف السوداني، وجهودها من أجل السلام بين موسكو وكييف. الدبلوماسية هذه لن تكون سهلة، فهي تحتاج لخلق شبكة أمان واسعة، وأن ينخرط فيها المزيد من الفاعلين الإقليميين والدوليين، الذين تختلف أولوياتهم، إنما من الضروري مشاركتهم على هدف واحد واضح: جعل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أقلَ صراعاً وتوتراً! فهل ذلك هدفٌ ممكن التحقق؟ وكيف يمكن ذلك؟