قبل عدة سنوات كان لدينا زميل عمل يتمتع بشخصية هادئة ولطيفة، فُجع هذا الزميل فجأة بوفاة ابنته التي تبلغ من العمر 10 سنوات. أقام مراسم العزاء وغاب عن العمل خمسة أيام عادَ بعدها لمكتبه وواصل عطاءه الوظيفي كما عهدناه. مرت عدة أشهر، نسينا حادثة وفاة ابنته وظننا أنه سلا وتجاوز الفاجعة، سمعته ذات يوم يهمس في الهاتف مع شخص توفي له قريب ويحاول التخفيف عنه، قال له "التسلي عن الحزن ليس خيانة، لو أن الحزن يعيد أحداً لأعاد ابنتي، بكيت على فراقها كل ليلة حتى شعرت أنه لم يبقَ في جسمي قطرة ماء". لم نكن نعرف حجم الحزن الذي مرّ به زميلنا خلال خلواته، ولا أحد يدرك قدْر الأهوال التي يعاني منها الأشخاص الذين حولنا، غالبنا يرتدي كل صباح قناعا يخفي به مشاعره عن الناس، يحاول أن يبدو متماسكاً أمامهم خشية أن يشفقوا عليه، أو أن يكتشفوا روحه المبعثرة، أو حتى رغبة منه في أن يحميهم من القلق عليه. الحياة جميلة وقاسية، والإنسان قوي لكنه هش، طبيعة العيش تحتم مروره بالمنغصات؛ قد تكون بسيطة مثل الصداع والأرق وقد تكون فواجع كبيرة كالفقد والمرض، لكنه برغم كل شيء مُطالب أن يواصل التزاماته الاجتماعية والوظيفية وأن يحمل آلامه الجسدية والنفسية ويستمر في المضي قدماً لكيلا تتعطل حياته، ولذلك من تقابلهم يومياً في حياتك ويرمون عليك تحية الصباح هم في الغالب يجرجرون خلفهم ظلاً ثقيلاً من الهموم التي لا تعرف عنها شيئاً. المحزن أن البارعين في إخفاء معاناتهم هم الأقل طلباً للمساعدة والأكثر استحقاقاً لها، لذا حاول أن تتلمس حاجتهم في الظلام الذي يحيط بهم وأن تبذل ما في وسعك لتقديم العون لهم في أي شكل تستطيع. الحياة الحديثة باردة موحشة، تسيطر عليها المادة وتخبو فيها المشاعر الإنسانية الدافئة، هي أشبه بالآلة الكبيرة؛ الترس الذي يتعطل فيها عن العمل يتم استبداله، لذا من المهم أن نحارب من أجل الحفاظ على إنسانيتنا وسط ضجيج هذه الآلة، يجب أن نتفقد بعضنا وأن نكون العكاز لمن ينكسر والسند لمن فقد ظهره، وأحياناً، الأمر لا يتطلب إلا أن نغض الطرف عن تقصير أو أن نختلق عذراً لمن لم يتمكن من القيام بمهامه الاجتماعية أو الوظيفية.