وقعت على ديوان "كزورق مثقوب من جهة الغرق" للشاعر السعودي إبراهيم مبارك في معرض الرياض الدولي للكتاب 2022، ديوان من القطع المتوسط في سبعة وسبعين نصّاً نثريًّا عذبًا يُقرأ تباعًا في جلسة واحدة. كنت قد وقعتُ قبلها بعامٍ تقريبًا على قصيدة "غيوم أبولونير" جسر "ميرابو". حال قراءة قصيدة مبارك "ساعة معصم للجسر" حضرت في ذهني قصيدة أبولونير، فتأكّدتُّ حينها من قدرة الشعر على الاتصال، عابرًا حدود الزمان والمكان واللغة. غيوم أبولونير أحد رواد الحداثة في فرنسا، كتب قصيدته في أوائل القرن الماضي التي نشرت في 1912، ثم تحوّلت بعد وفاته بسنوات إلى أغنية شهيرة، هنا مجتزأ منها بترجمة سعيد الجندوبي: (تحت جسر "ميرابو" يجري "السّان" وحبّنا/ هل لذكراه لزوم/ الفرحة كانت تأتي دوما بعد الأسى/ ليأتِ اللّيل ولتدقّ السّاعة/ فالأيّام تذهبُ وأنا في مكاني/ يديّ بين يديكِ فلْنمكث وجها لوجه/ بينما تحت جسر ذراعينا تمّر -عبر النظرات الأزليّة- الموجة المنهَكَة/ الحبّ يذهب كهذا الماء الجاري/ ما أبطأَ الحياة وما أعنف الأمل!). جعل الشاعر الفرنسي من الجسر المعروف شاهدًا، على مواضيع القصيدة كالزمن والمشاعر والذكريات، لا يعدّ ذلك جديدًا في الشعر الفرنسي على الأقل، فقد تطرّق "بول فاليري" للمواضيع ذاتها في قصيدة "أغنية الخريف"، إنّ إشراك الجسر الثابت مع النهر المتدفّق في تلك الشهادة، هو ما يعوّل عليه في قصيدة أبولونير، ويجعل النص فريداً في مفصلين متضادين رئيسين، ثبات الجسر وحركة النهر من جهة، ودفقة الأمل العنيفة مبدّدة رتابة جريان النهر الذي يمثل بطء الحياة، من جهة أخرى. يكتب إبراهيم مبارك نصّه "ساعة معصم للجسر"، جاعلًا الجسر غير المعرّف، أي جسر على أي نهر؛ الشاهد والموضوع: (آسر هو انحناؤك/ أيها الجسر الناشب في خطوات المارة التي لم تكتمل/ أسفلك يمر النهر كساعي البريد العجوز. ثم يقول: هكذا أراك صلبًا أيها الجسر/ يمر حديث العابرين على صمتك/ عما ليس له علاقة بك ولا بالنهر/ فتقتلهم عادة العبور/ وتضجرك بلاهة الوقوف/ بلا موعد حتى مع الموت). يجمع مبارك للجسر صفات الصلابة، الصمت، الصمود، فيقارب بذلك جلادة "السّان" الفرنسي، غير أنّه يكسره بصفة الضّجر، ونحن نعلم ما قد يؤدي إليه الضجر خرقًا للاعتياد، على غير المتوقع قام بهذا الخرق الشاعر وليس الجسر، عندما اقترح أنسنته بشيء مادّي يقربه بشدّة من هؤلاء العابرين فوقه ويكسبه جسدًا بشريًا بساعة معصم، فيقول: (لم يهدك أحدهم ساعة معصم/ لكنّك تدرك القيمة الزمنية لمسافة السقوط/ لذا ظل صمودك مزمنًا/ لدرجة أنهم يتساقطون من أعلاك بمحاذاة نهاياتهم). الجسر الشاهد على البشر وعبور الزمن، والجسر الموضوع في جَلَد الحكيم المرابط فوق نهر هرمٍ حُرّ. يعلو هنا شأن الثبات على الحركة متمثلة في البشر، والنهر الهرم الحُر المنعتق من البحر، الذي اختار العذوبة متخلّصًا من عبء الملح، جسرٌ أتى من محض مخيّلة، لا دخل لبيئة الشاعر فيها ولا لما اختبره من أماكن، صورة نسجتها قريحة الشّعر المتّصلة، كخلفية كبرى، لسماءٍ تظلل تضاريس متباينة، ظلّلت شاعرَيْن لم يلتقيا، أحدهما غاب منذ ما يزيد على المئة عام في عاصمة الجسور والنور، وآخر شكّلته زرقة البحر في جازان و"قصص البحارة التي عادت قصصهم ولم يعودوا، وظلّ حلم الجسور يراوده كعصفور يحلم بالحدائق ليواصل الغناء" على حدّ تعبير الشاعر.