محمود درويش هو ذلك الشاعر الذي يرحل من منفى الى آخر، من دون ان يترك موطنه الاول ولو لحظة واحدة. وقصيدته، على اختلاف مراحلها، بقيت تغرف من الغنائية العربية القديمة، غرْفها من اعمال كبار شعراء العصر مثل لوركا ونيرودا وإيلوار وأراغون. أحيا الشاعر الفلسطيني أمسية لندنية أخيراً في مناسبة صدور مجموعته الجديدة "لماذا تركت الحصان وحيداً" عن "دار رياض الريّس". وكانت "الوسط" زارته في باريس، عشية صدور هذه المجموعة التي يروي فيها سيرته الذاتية من خلال ذاكرة المكان والانسان والشعب والتاريخ، والتي تسجّل نقطة تحوّل في شعر درويش لحظة انفتاحه على قصيدة النثر. نذهب الى محمود درويش مثلما نذهب الى نبع في الجليل. خريف باريس ينوص على ضفاف "السين" وعلى الأرصفة المغطاة بالاوراق الصفراء، والضوء الساطع ينشر على أديم الذاكرة تلك الصفحات المشرقة التي كتبها هنري ميللر عن هذه المدينة الساحرة أيام كان يتسكع فيها مفلساً، لكن مشحوناً بالأماني والأفكار والرغبات الجامحة. سائق التاكسي الجزائري الخمسيني يستمع الى نشرة الاخبار بانتباه وتوتر. اغتيالات وانفجارات والضحايا بأعداد وفيرة من الجانبين. وأنا متجه الى بيت ذلك الشاعر الذي مشى على الألغام، واكتوى بلوعة موت الاصدقاء وفراق الأحباب اكثر من مرة، غير انه ظل متألقاً مثل قمر ربيعي في مساء الجليل. جُسُورٌُ... جسور... جسور. "تحت جسر ميرابو يتدفق السين وقصص حبنا…"، غنّى ذلك الرائع أبولينير قبل ان يموت برصاصة في الرأس عام 1918. أما باول تسيلان فقد رمى بنفسه في النهر من أحد هذه الجسور ذات ليلة باردة من ليالي نيسان ابريل 1970. وقبلهما، وُجد نرفال مشنوقاً على جسر قريب من ساحة "شاتليه" فجر السادس والعشرين من كانون الثاني يناير 1855. جسور، جسور... والخريف سيّد الفصول في هذه المدينة. والشاعر الذي أنا ذاهب لزيارته غنّى ذات يوم: "لا أريد الرجوع الى احد بعد هذا الخريف". حلم بالابيض والاسود حين دعاني محمود درويش الى شقته الباريسية ذات يوم رائق من ايام تشرين الاول اكتوبر 1994، شعرت بالغبطة، ذلك لأني ميّال بطبعي الى مفاجأة الشعراء الذين احبهم في خلواتهم... هناك حيث بإمكاني ان ألامس وأعاين بعضاً من تلك الاشياء الصغيرة التي تؤثث عالمهم الحميمي. كل اللقاءات السابقة مع درويش كانت قصيرة ورسمية. وعندما عاش في تونس مطلع الثمانينات شاهدته اكثر من مرة يصعد او ينزل مدارج ضاحية سيدي بو سعيد، غير أني لم أشأ الاقتراب منه، ودائماً كنت اقول لاجماً رغبتي: "اترك الشاعر لوحدته، اترك الشاعر للنشيد...". وخلال الربيع الماضي، قرأت مقالاً جميلاً كتبه الطاهر بن جلون عن محمود درويش، فهتفت له مهنّئاً. تكلمنا قليلاً. وكان محمود ودوداً معي الى أقصى حدّ. واذكر انه قال لي لما سألته: "هل تغيرت يا محمود؟": "نعم… تغيرت كثيراً… السنّ واليأس… اليأس بالخصوص هو الذي دفعني الى اعادة النظر في كثير من الاشياء، وفي علاقتي مع بعض الناس". عقب تلك المكالمة القصيرة بدا لي أنّ ثمة غشاوة بيني وبين الشاعر قد سقطت، وانه يتوجب عليّ في اول زيارة لي الى باريس ان ازوره في خلوته، وان استمع اليه طويلاً… وحالما هاتفته قال: "تعال!". حلم بالابيض والاسود قال ريلكة ذات مرة إن الشاعر يكون شاعراً حتى وهو يقوم بغسل يديه. ولعل محمود درويش هو من الشعراء العرب القلائل الذين تتوافر فيهم هذه الصفة… والنظرة الاولى التي ألقيها على أثاث شقته يثبت لي اثباتاً قاطعاً إنه الشاعر الأنيق، صاحب الذوق الرفيع، والعاشق الذي لا يعرف لا السكون ولا البرود. هذه الشقّة وصفتها صحافية فرنسية ذات مرّة بأنها "حلم بالابيض والاسود، منسجمة تماماً مع اناقة الرجل الكاملة، ومع تحفّظه الشديد ايضاً. ان واقعه بعيد مسافة آلاف الكيلومترات باتجاه الجنوب الشرقي، بألوانه الفاقعة، وأريجه المسكر". نجلس. أمامنا الشرفة المطلة على "برج ايفل"، وضوء المساء الخريفي وهو يتمرغ فوق سطوح العمارات. يأخذنا الحديث الى الرواية اليابانية انطلاقاً من صاحب نوبل كانزابورو اوي، ثم صوب الرواية عموماً. درويش قارئ نهم للرواية. وبإمكان العارف بأسرار شعره وادواته، ان يعاين بسرعة التأثير الخفي للرواية عليه. انه يحكي ويغني في الوقت نفسه، تماماً مثل الرواة الشعبيين في المدن القديمة. ولعل هذا الارتباط بين الغناء والسرد في شعره هو الذي أهّله لأن يكون مؤرخ الذاكرة الفلسطينية بامتياز على مدى هذا القرن. ولا اعتقد ان هناك شعراء وكتّاباً فلسطينيين آخرين وصلوا الى ما وصل اليه درويش في هذا المجال. في "ذاكرة النسيان" تجلّت قدرة درويش السردية بشكل واضح وقوي. واستطاع من خلال هذا العمل ان يقدم لنا شهادة عن حصار بيروت تساوي في وداعتها وعنفها مع النص الذي ابدعه جان جينيه عن مجزرة "صبرا وشاتيلا". لم يشأ درويش في هذا الكتاب ان يضيف اي شيء الى ما كان يسمع ويرى ويعاين ويشم ويلمس. روى الاحداث كما تمّت، ووصف الناس كما رآهم بدقة الكاميرا السحرية. وهكذا تمكن من ان يفتح امام السرد الروائي العربي افقاً جديداً. افقاً كان الروائيون العرب متغافلين عنه، ظانين ان عالم التخيّل هو وحده القادر على رصد الواقع والاحداث والاشياء… قرن الشعراء يقول محمود درويش إنه اكتشف الروائيين اليابانيين منذ سنوات عدة، وانه اطلع على اهم آثار المشاهير منهم مثل كواباتا وميشيما وتانيزاكي وآخرين. ثم يواصل حديثه قائلاً: "الروايات اليابانية والاميركية - اللاتينية هي الأحبّ الى نفسي هذه الأيام. وانا اقرأها بمتعة كبيرة. وأعتبر رواية مثل "السيد الرئيس" لاستورياس واحدة من اهم الملاحم الشعرية على مدى هذا القرن… وهي في رأيي اكثر عمقاً من "خريف البطريرك" لغابريال غارسيا ماركيز التي تتحدث عن الموضوع نفسه، اي موضوع الديكتاتوريات في بلدان اميركا اللاتينية. هل سيجرّب كتابة الرواية مرة اخرى، بعد نجاح تجربة "ذاكرة النسيان"؟ يجيب درويش قائلاً: "لست ادري… هناك مشاريع عديدة تختمر في ذهني غير اني لا أحبّ ان اتحدث عنها الآن…". يصمت قليلاً ثم يقول: "أتعلم ان هذا القرن هو أهم قرن بالنسبة الى الشعر. ليس هناك في التاريخ البشري كله قرن احتشد فيه مثل هذا العدد الهائل من الشعراء العظام… سان جان بيرس، كافافيس، مايا كوفسكي، بابلو نيرودا، لوركا، رينيه شار، ايليتيس، ايلوار، اراغون، ديلان توماس، باسترناك… حتى بعض الروائيين مثل جويس وبيكيت يمكن ان نقول إنهم شعراء كبار…". يرنّ جرس الهاتف. ينهض محمود. يتكلم لمدة عشر دقائق تقريباً. يبدو متأثراً بما يسمع: "انه صديق لي بصدد مراجعة نسخة من ديواني الجديد "لماذا تركت الحصان وحيداً" دار الريّس الذي سوف يصدر في الأيام المقبلة. قرأ الجزء الاكبر منه، ويعتبره ملحمة شعرية. في الحقيقة أنا اعتقد ان هذا العمل سيشكّل اضافة حقيقية الى شعري، تماماً مثلما هو الحال بالنسبة الى "أحد عشر كوكباً" دار الجديد، بيروت. حاولت من خلاله ان أروي بشكل شعري فصولاً من سيرتي الذاتية. لذا اهديته الى ذكرى الغائبين: جدي حسين، جدتي آمنة، وابي سليم والى الحاضرة، حورية أمي": "أمي تَعْدُّ أصابعي العشرين عن بُعْد. تمشطني بخصلة شعرها الذهبيّ. تبحث في ثيابي الداخلية عن نساء أجنبيات، وترْفو جوربي المقطوعَ. لم أكبرْ على يدها كما شئنا: أنا وهي، افترقنا عند منحدرِ الرّخام… ولوّحت سحب لنا، ولماعز يرث المكان. وأنشأ المنفى لنا لغتين: دارجة… ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى وفصحى… كيف أُفسّر للظلال ظلالها!" كان محمود درويش لا يزال صبياً يمشي حافياً في دروب القرى حين هُجّرت عائلته الى لبنان. ولما عادت، كان البيت قد مُحيَ، ولم يبق منه أثر. ومنذ سنّ مبكرة بدأ الفتى يلتهم الكتب، ويدرّب نفسه على تلك العزلة المحبّبة الى قلوب الشعراء. وكان لا يزال "يرتدي الشورت" على حدّ تعبيره عندما بدأ يقرض الشعر، ويشارك في المظاهرات. بعدها عرف الاعتقال والاقامة الجبرية بسبب نشاطاته السياسية وقصائده الحماسية التي كان يشهّر فيها بالاحتلال الاسرائيلي. هذه الاحداث الاليمة تشكّل الركيزة الاساسية لمجموعته الجديدة "لماذا تركت الحصان وحيداً". وها الشاعر بعد غياب طال، يطلّ من جديد على "شبحه قادماً من بعيد"، وعلى "صورته وهي تهرب من نفسها الى السلم الحجري"، وعلى "جذع زيتونة خبأت زكريّا"، وعلى "المفردات التي انقرضت من لسان العرب"، وعلى "الريح تبحث عن وطن الريح في نفسها"، أو على "موكب الانبياء القدامى وهم يصعدون حفاة الى اورشليم"، وعلى "اسم أبي الطيب المتنبي المسافر من طبريا الى شعر فوق حصان النشيد…". ريح تبحث عن وطن مرة اخرى يطلّ هنري ميللر بقامته الفارعة، ووجهه الطويل المسكون بسخرية لاذعة، فأتذكر قولته الواردة في كتابه الشهير عن رامبو وعنوانه "زمن القتلة": "إن مكان كل تجديد كامن في القلب… وعلى الشاعر ان يوطّن نفسه هناك…". ومحمود درويش الذي طرق باب العشق والثورة عبر مسيرته الشعرية الطويلة، اختار أن يعود الى قلبه، أي الى طفولته، والى الفصول الاولى من سيرته الذاتية، لا هرباً من القضية التي ظلت تشكّل المحور الاساسي لعالمه الشعري على مدى ثلاثين عاماً، ولا تخطياً لها. بل لأن ذلك الشاعر الذي وضع أناشيده الاولى وهو لا يزال ب "الشورت" كبر الآن، كبر على جميع المستويات الى درجة ان القضية الكبرى باتت جزءاً منه. وهكذا انعدمت المسافة بينهما، وتمّ الالتحام التامّ، وبأعمق وأروع صورة ممكنة. درويش استطاع ان يفلت من الفخ، وظل دائماً ذلك الشاعر الذي يرحل من منفى الى آخر، لكن من دون ان يترك الموطن الاول ولو لحظة واحدة. درويش حدس منذ البداية أن موطن الشعر الحق هو القلب وليس الفكر كما يتوهم البعض. "الحوار مع الشعر اذا لم يكن حواراً ينطلق من الفكر - يقول هايدغر - فانه يهدد دائماً بتشويه الكلمة الشعرية عوض ان يترك لها عذوبة صوتها... إن مصير العالم يعلن عن نفسه في اعمال الشعراء". وبفهمه العميق والذكيّ لهذه المسألة الخطيرة استطاع درويش ان يبدع قصائد غنائية رائعة "ترشد عيوننا الى البرق والى منابعه العذراء" على حدّ تعبير رينيه شار. وعلى ذكر "الغنائية"، لا بد من التوقّف قليلاً عند هذه المسألة… كثيرون هم اولئك الذين حاولوا ان يحطّوا من قيمة درويش شاعراً وفناناً بحجة اسرافه في ما سمّوه ب "الغنائية البكائية". من خلال هذه الوصفة التي اعدوها في محابرهم المعتقة، حاول هؤلاء أن يقوّضوا عالماً شعرياً ندر أن وجد مثيله خلال هذا القرن. غير ان مثل هذه النظريات تساقطت كالورق اليابس. ذلك ان غنائية درويش تلتقي في الجوهر، ليس فقط مع الغنائية العربية القديمة امرؤ القيس، طرفة بن العبد، ابو الطيب المتنبي، ابو نواس، الموشحات الاندلسية…، وانما ايضاً مع تلك الغنائية التي طبعت اعمال شعراء كبار من هذا العصر مثل لوركا ونيرودا وإيلوار وأراغون ورافائيل البرتي… انها غنائية صافية لا علاقة لها بتلك "البكائيات" المفتعلة التي يسفحها الشعراء "الوطنيون" في جنازات الثورات الخاسرة. درويش شاعر ملتزم، بأرقى معاني الكلمة، لذا ظل شعره محافظاً على رونقه، وعلى انسانيته، وعلى تدفقه الشبيه بتدفق الانهار. يبدأ الليل في النزول ببطء وتتلوّن السماء الباريسية امامنا بلون البنفسج الغامق، ويواصل درويش توضيح بعض خلفيات ديوانه "لماذا تركت الحصان وحيداً": "كنت ولا أزال مشغولاً بمشروع شعري ليس منفصلاً عن الواقع وانما يحاول ان يخلق مسافة بيني وبين الراهن. اي انني لا استطيع ان اتعامل مع الواقع الملموس من خلال نظرته الراهنة. فلا بد ان اقف على ارض صلبة، ارض اكثر صلابة هي في نظري ارض الماضي. لأنني اعتقد ان الرحلة الزمنية الوحيدة الصلبة هي الماضي. فالحاضر متذبذب ومتحرك. ومن هنا رأيت ان أرضي الباقية هي ارض الذاكرة. ذاكرة المكان والانسان والشعب والتاريخ لذلك رويت سيرتي الذاتية من خلال عمل شعري يصوّر مرحلة الطفولة". ماذا بعد السلام؟ ثمة ميزة اخرى يتحلّى بها محمود درويش وهي انفتاحه على مختلف التيارات التي عرفها ويعرفها المشهد الشعري العربي. وهو يتابع بانتباه وتحفّز كل ما يصدر هنا وهناك. وبإمكانه ان يحدثك عن دراية واقتدار عن اهم الاصوات الشعرية في هذا البلد العربي او ذاك. لا شيء يمكن ان يغيب عنه، ولا شيء يفلت منه. وعندما راجت "قصيدة النثر" في الاوساط الشعرية العربية، لم يحاربها درويش لا في الخفاء ولا في العلن. لم يجنّد لها نقاداً مرتزقة كما فعل البعض، وانما راح يتمعّن فيها، ويدرسها بعناية، بل وآزرها في اكثر من مناسبة، محاولاً الافادة من ادواتها قدر المستطاع. "في ديواني الجديد - يقول الشاعر - سوف تلاحظ الى اي حدّ انا انفتحت على قصيدة النثر، والى اي حدّ استوعبت اهدافها وادواتها. اعتقد انه لا بد من الاهتمام بقصيدة النثر، والانفتاح عليها يتيح للشعر العربي ان يكون اكثر تنوعاً واكثر جرأة…". أعرف انه لا يرغب كثيراً في الحديث مجدداً عن تلك المسألة التي تشغل باله ليل نهار، غير اني ادفعه ببطء باتجاهها… كيف يرى الى مستقبل الشعب الفلسطيني بعد عملية السلام؟ "تحدثت في اكثر من مناسبة حول هذه المسألة وعبّرت عن قلقي من الطريقة التي تمت فيها عملية السلام… ومع ذلك استطيع ان اقول ان الانسان الفلسطيني سوف يعيش مستقبلاً نوعاً من التمرد ضد صورته الخاصة. كان محتماً عليه ان يقوم بمهام واضحة ومحددة وان يتحمل تبعاتها. وكان عليه ايضاً ان يتأمل وان يموت حتى ينحت لنفسه صورة البطل. وكان ممنوعاً عليه القيام بغير ذلك، وللأسف الشديد استفاد الاسرائيليون من هذا الواقع ايما استفادة… اليوم، نحن على عتبة مرحلة سوف نرى عبرها الفلسطيني وقد عاد انساناً عادياً… سوف نحكم على الادب الذي يبدعه او على الموسيقى التي يعزفها من دون ان نحتاج في ذلك لا الى شفقة ولا الى اي شعور بالتضامن او التآزر... ويواصل صاحب "أحمد الزعتر": "علينا ان نقرأ مجدداً تاريخنا المعاصر، تاريخنا في المخيمات، وفي المنافي او في قواعد الفدائيين… علينا ان نعيد قراءة برامجنا المدرسية والسياسية ونضع انفسنا امام السؤال التالي: هل نحن الآن ما كنا، ومن نحن؟ هل اخطأنا؟ اكيد اننا سوف نتذكر شهداءنا بكثير من الحزن. ان هذا الأمر ليس خاصاً بالفلسطينيين وانما بكل شعب يواجه وضع ما بعد المعركة. غير ان معركتنا كانت طويلة، كما لو انها بلا نهاية. ولشدة طولها، ولّدت داخل الشعب الفلسطيني ذاته مجتمعات فلسطينية مختلفة في المعيشة وفي السلوك وفي الطباع. لذا أرى ان الشرط الأساسي لمسيرة السلام هو معالجتها بطريقة ديموقراطية". حين استقال محمود درويش من اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية طفقت الألسن تردد بأن "الدرّ عاد الى معدنه"، اي ان درويش عاد مثقفاً حالماً ومثالياً كما كان وسيظل حتى النهاية لأنه لم يتمكن حسب تعبيرهم من "التكيّف مع الظروف الجديدة التي تعيشها القضية". لكن أغلب ما قيل لا يستند الى أساس منطقي مقنع. كل ما في الأمر أن درويش لا يجيد مناورات الكواليس، ليس لعدم امتلاكه الذكاء السياسي الذي يؤهله لذلك، وانما لأنه فنان يهتم بالتاريخ في سيرورته، لا بالاحداث العابرة والطارئة التي سرعان ما تتلاشى دون ان تخلف أثراً يُذكر. إن استقالة الشاعر تبدو اليوم، وليدة فهم دقيق لتاريخ الشعب الفلسطيني، واحساس قوي بالمسؤولية المُلقاة على عاتقه منذ ان اطلق اناشيده الاولى ضد الاحتلال واغتصاب الارض. تنتهي زيارتي الى محمود درويش في الساعة السادسة والنصف مساء. اتركه لعزلته المعطّرة بالشعر، وامضي الى ليل باريس وفي قلبي مزيد من الحب والاحترام لذلك الشاعر الذي قال: "يا نشيد خذ العناصر كلها واصعد بنا دهراً فدهرا كي نرى من سيرة الانسان ما سيعيدنا من رحلة العبث الطويلة الى المكان - مكاننا، واصعد بنا قمم الحراب لكي نطلّ على المدينة أنت أدرى بالمكان وقوة الاشياء فينا أنت أدرى بالزمان".