يؤكد الناقد الأميركي «هارولد بلوم» على لازمة من لوازم الشعر والإبداع الأدبي عمومًا وهو التأثر فيقول: «إنّ الشاعر القوي هو وحده القادر على التأثر بأسلافه الأقوياء، ومنازلتهم الند للند، أما الشاعر الضعيف فلا يجد أمامه سوى التقليد». وعُرف عن شعر اليوناني «قسطنطين كفافيس» اختصاصه بتقنية مميِّزة، وهي التصاقه بالتراث الأدبي الإغريقي، تمثلت في استخدام وتوظيف الذاكرة، بإفراغ الأساطير من محتواها والاحتفاظ منها بالأسماء، ثم إعادة بناءها والغوص بها في تاريخ الإغريق بشكل مغاير. في الشعر الخليجي وارتباطه بالأسلاف، لا أشهر من «مذكرات بحّار» للكويتي محمد الفايز، عندما كتب: ها نحن عدنا ننشد «الهولو» على ظهر السفينة، صانعًا ملحمته الخاصة في اجترار الأهوال، للظفر بحياةٍ رابضة بين فكيّ الموت. ومن ذلك المشهد في الخلفية، يعاد تعريف البحر في الذاكرة، وباعتبار البيئة موضوعًا أصيلًا لمخيال الشاعر، ومكوّنًا أساسيًا لتشكّل شخصيّته الإبداعية، سنتعرّض إلى نماذج معاصرة من الشعر الإماراتي، نسبر تفاصيل التأثر وقلقه، ونتحرّى البحر وفرادة تمثيلاته في وجدان الشاعر الشاب. شيخة المطيري في قصيدة «سيبحرون» تجادل سلطة البحر ثم تستعيرها بهيئة التصريف في الموج، لكنّها تشير إلى انتفاء تلك السلطة، جرّاء مرادف آخر للبحر وهو الرحيل، والفقد، متمثّلين في الإبحار والغرق ثم القلق وكلّها تصبّ في دلتا الألم، فتقول: سيبحرون ولي منفاي لي غرقي/ويتركون على شاطي الهوى قلقي/أنا يد الموج لكن لست أملكني/سيبحرون ولن يبقى سوى أرقي. علي الشعالي في قصيدة «أبي» لا يصرّح بمفردة البحر أو مرادفاتها، إنّما يشير بمفردات مجاورة ووثيقة، لن تقوم بدونه، ينشغل الذهن بما وراء الصورة للقبض على المعنى، حيث يشرع التأويل مصاريعه، ندلف إلى حِلف المشاعر يبدؤها بلل يوحي بعدم ارتياح، ثم رفض يتّضح في الصد عن الاستضافة، وخوفٌ ما يؤدي للتظاهر بخلاف الكامن، يتبعه بطبيعة الحال قلق، واهتياج، مشكّلين معًا كتلة نكاد نرى لهبها، ونختنق بدخانها، إنها شعلة الغضب. يقول: الشّراعُ المبلّلُ لا يستضيف الرياح/ ولكنّ أوتاده تدّعي الاحتفال/ وتسرف في الطقطقة. محمد العمادي في قصيدة «فلسفة الماء» يطرح سؤاله الإنساني مستّلًا إياه من الوجودي العام، التناقض الكامن في الذات، الإنسان، من القطب إلى ضدّه، الملوحة الشديدة، فالحلاوة المفرطة، ناهيًا عن سؤال التّقلّب، للتأكيد على دور النقائص، والنقائض في حدوث الاكتمال، يقول: فلا شيء للأشياء لا شيء ينتهي/ وللأصل تأصيل وللفرع مذهب/ ولا تسأل عن البحر الذي نحن ماؤه/ لماذا تحولنا أجاجا يُعذِبُ. هدى الزرعوني في قصيدة «دبي قصيدة البحر» تُجلّي صورة طيّبة للبحر بمكنون خيراته، ثمّة أفراح تنطوي في مشاعر مشرقة بالحب، تستعير الشاعرة تلك الصورة للوطن ممثّلًا في جرعته المركّزة، مدينتها «دبي» الراكزة في هدأة الخليج، منشغلة بالخلق، والتّعلّي، ما أضفى سعادة مثّلها الشّدو، وأمانًا تحقق في الرّسو والاستقرار. تقول: رسالة حب دبي/ يخبئها عاشق في الخليج/ فتولد منها اللآلئ/ تشدو الموانئ/يرسو الحمام. نماذج معاصرة في الشعر الإماراتي، تؤكّد على تفريغ الشعر من أغراضه المعروفة، محلّقًا في سماوات خاصة، يستقلّ الشاعر فيها بذاته في نصوصه، محوره هو دائرته المغلقة وخطوط تماسّها مع العالم من حوله، أما المعنى فينزاح في لغة الشاعر بعيدًا عن التّطابق، إلى على فسَحة التأويل معظم الوقت، ليطرق مداخل أخرى إلى ذهن المتلّقي.