من مطلع الستينات والشاعر البحريني «علوي الهاشمي» يكتب قصيدته بلغة شديدة الحساسية، محتفياً بالزمان والمكان، وفي كل هذا يمارس دورا «استثنائيا» لإلغاء جسر العبور بين اللغة ومنطقها التاريخي، يمارس «الهاشمي» الكتابة الشعرية والنقدية في آن، وفي هذا الإطار أصدر المجموعات الشعرية التالية: «من أين يجيء الحزن؟» و « العصافير وظل الشجرة» و«محطات للتعب». كما أصدر عدة كتب نقدية ومنها «ما قالته النخلة للبحر»و«شعراء البحرين المعاصرون» و«فلسفة الإيقاع في الشعر العربي».... هنا حوار مع الشاعر «علوي الهاشمي» فإلى التفاصيل. ينهل الشاعر «علوي الهاشمي» من الذاكرة والمخيلة..فكيف نستدرج مكونات نصك الشعري من الذاكرة والمخيلة؟ -على قدر ما يغيب الواقع يزداد عمقا وتجليا في عملية التعبير الجمالية والشعرية-بوجود آنية مستطرقة، إذا أملتها على الواقع قل السائل الجمالي أو الشعري، و العكس صحيح، و إذا أملتها (الأواني المستطرقة) على جانبها الجمالي يقل أو يغيب الجانب الواقعي، أما أنا فأؤمن بحالة وضع الآنية المستطرقة» على سطح مستو، لكي يتوازن فيها غياب الواقع مع شفافية الرمز، فلا يطغى أحدهما على الأخر، وهذا ما أحاول أن أحققه في تجربتي الشعرية. هل يعيد المبدع صياغة هذه المذكرة طبقا لما تمليه عليه ظروف اللحظة الإبداعية؟ - كل قصيدة لها قانونها، لا يوجد قانون واحد لكل القصائد، قصيدة يحركها ضوء في آخر النفق، وأخرى تمتد مكوناتها إلى زمن الطفولة، كما قد تنفجر قصيدة رابعة من حالة قرائية لكتاب أو قصيدة من قصائد الشعر، التي يعجب بها الشاعر، كما أن هناك قصيدة أحيانا- تكون من تراكم ثقافي وعلى هذا النحو فإن محركات النص الشعري أو الكتابة الشعرية يصعب حصرها أو تحديدها، وتكاد تكون متنوعة بعدد القصائد التي تكتب. اسم «علوي الهاشمي» يستدعي إلى الذاكرة «العصافير وظل الشجرة»، «النخلة و البحر» وغير ذلك من مفردات حياتية، فهل تشكل هذه العناصر موجات الحالة الشعرية لديك؟ - بالتأكيد هي بعض موجات الحالة الشعرية، وقد تكون في مقدمتها، مع غيرها من الموجات، فأنت تعرف أن البحر مليء بالموج، لكن النخلة و البحر-بصفة خاصة- يشكلان قانون الحالة الشعرية، ليس عندي فقط، و لكن عند كل شعراء الحداثة في البحرين، وهذا ما كشفت عنه في كتابي، الذي خصصته لتجربة الشعر المعاصر في البحرين وقد طبع في أوائل الثمانينات، وأسميته «ما قالته النخلة للبحر». هل مرّ الشعر البحريني بالأطوار التقليدية التي رأيناها في العالم العربي؟ -الشعر في البحرين شأنه شأن الشعر في البلدان العربية الشقيقة، وقد مر بمراحل التقليد الطويلة السابقة لحركة الإصلاح واليقظة، والتي جاءت بعد حالة من الجمود الطويل بواقع الثقافة في الوطن العربي، ثم هدأت هذه اليقظة في العواصم العربية الكبرى، مثل مصر و بلاد الشام و العراق. وكان وصول شمس الإصلاح واليقظة إلي البحرين مسبقا، تميزت به عن دول الخليج، في مطلع القرن العشرين، عند تأسيس التعليم الرسمي عام 1919 للبنين، وعام 1928 للبنات، ثم تأسيس أول نادٍ أدبي في البحرين عام 1920، وانفتاح الواقع الثقافي على الثقافة العربية المعاصرة في صورتها الحديثة، من ذلك الوقت، حين زارها الرحالة المعروف أمين الريحاني عام 1921، وقال فيها كلمته الشهيرة، التي نشرها في كتابه الضخم عن ملوك العرب: «إن في البحرين ثقافة واسعة وعميقة، يجهلها المثقفون العرب، وإني لأعتذر بالنيابة عنهم جميعاً على جهلنا بهذا الواقع الثقافي»، لقد وجد «الريحاني» في المجالس التي زارها للأعيان، في بيوتهم وأنديتهم ومدارسهم مجلات من جميع أنحاء العالم، بما فيها المجلات العربية كالهلال و الرسالة وغيرهما، بالإضافة إلى المجلات الوافدة من الهند ودول أوروبا، فقد كان لنا السبق فى الأخذ بأسباب الحداثة، هذه حقيقة الشعر الأولي، التي تلقي بمسيرتها الطويلة الحركة الشعرية، وعلى قاعدتها الصعبة، حيث مرت بمراحل الإصلاح و الشعر التنويري، تأثراً بأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي، ثم واكبت حركة الشعر بعد ذلك عبر موجة التطور الشعري في الوطن العربي، والتي حمل لواءها الشعراء الرومانسيون مثل علي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل و إبراهيم ناجي وعلي الجارم، ثم انتقل الشعر في البحرين إلى التأثر بحركة الشعر الواقعي المتصل بالحداثة مع شعراء مثل بدر شاكرالسياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأدونيس وخليل حاوي، وكل الشعراء العرب الحداثيين الرواد، وكانت البحرين تكاد تزامن هذه الأطوار الشعرية، إذ لا تتأخرعنها أكثر من خمس سنوات. انتقلت كثيرا بين عدة مدن عربية وعالمية، فكيف تركت أثرها في نصوصك وحياتك؟ - المدن التي تركت أثرها في نفسي وفي تجربتي الشعرية، وظهرت في قصائدي إما تضميناً أو تلميحاً أو وضوحاً، هي تلك المدن التي درست فيها، ابتداء من لندن، مرورا ببيروت فالقاهرة فتونس، لأنني أبقى فيها مدة طويلة، وأنا بطبيعتي أندمج في المكان؛ لأنني أرى أن المكان يتضمن روحاً نألفها ونعيشها، فبعد أن نسكن المكان يسكننا. أي الأماكن يستفزك إبداعياً في البحرين؟ -البحر، والغريب أنه عندما يستفزني بشريطه الأزرق يحرك في قلبي جذور النخلة، فأظل أتماوج بين الأخضر والأزرق، ولا أدري أيهما البحر وأيهما النخلة. من هم آباؤك الشعريون؟ -أول هولاء الشعراء هو الشاعر الدلموني القديم، الذي وردت قصيدته الطويلة في اللوح الثامن من ملحمة جلجامش.. تلك التي يصف فيها «دلمون» وهو اسم البحرين القديم، فهي قصيدة جميلة، تصف البحرين باعتبارها أرضاً للخلود، وتنتهي بالبيت الجميل: «فلتصبح دلمون ميناءً للعالم كله»، ثم أنتقل إلى شاعر كبير بقامة «المتنبي» الذي قرأت ديوانه مبكراً، وأخذته معي إلى لندن، عندما سافرت للدراسة الجامعية، والشاعر العربي الثالث هو «سليمان العيسى» الذي قرأته أيضاً في وقت مبكر، ورافقتني دواوينه إلى بريطانيا. بعد ذلك كان لي أخوة كبار، أكبرهم آباء لي؛ لأنني أكاد أتزامن معهم، وهم شعراء الريادة العرب كالبياتي والسياب ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وحجازي، وجميعهم التقيت بهم منذ وقت مبكر في تجربتي الشعرية في الستينات، ماعدا السياب الذي توفي وأنا على مقاعد الدراسة الثانوية. كيف تفسر هذا الحضور الغامض للمرأة في شعرك؟ - مرت المرأة في شعري بمرحلة كانت فيها جزءا من الواقع، ثم أخذت تغيب شيئا فشيئا وطبقا لنظرية النقد عن المرأة فإنه النجاح و الفشل مع المرأة في تجاربنا الحياتية هما اللذان يحددان فشل أو نجاح التجربة الإبداعية، فدور المرأة خطير في حياة المبدع وتجربته، لأن صورة المرأة الفاشلة في حياة المبدع، يصعب أن تنهض تجمل الصورة الفنية لأنها لا تستطيع أن تكون رمزا ناجحا. إلى أي حد تشبه شعرك؟ -أنا ما أكتب وما أكتب أنا؟، نحن روحان سكنا بدنا واحدا، فإذا أبصرته أبصرتني، وإذا أبصرتني أبصرته. هل معنى ذلك أن كل شاعر يكتب ذاته فى أشعاره مهما تعددت صور الذات؟ -نعم يكتب ذاته الكبرى وأحوالها المفتوحة المتعددة، غير المحدودة، فهو يكتب أحواله. أنت شاعر و ناقد كيف ترى العلاقة بين النقد و الشعر؟ -العلاقة بينهما تقدم على التكامل وأذكر دائماً أنه تحت جلد كل شاعر ناقد، لأن الشاعر قد يكتب شعرا، لكنه مغلق لا يتطور إلا بحركة الناقد تحت جلده، ويتدفق فى إنتاجه الشعري لأن الناقد كامن فيه.