شكَّلت الأندلس مصدرَ إلهام شعريٍّ خصب لكثير من الشعراء العرب، سواء في تمجيد لحظات هيبتها وصعودها أو في رثاء زمن نكوصها وانكسارها، فهي الفكرة الشاسعة للمصير التراجيدي للمدن والأمم عبر العصور، بيد أنَّ طبيعة ذلك الإلهام ومستواه الفني، لم يكن ذا بعد واحد، وإنما كان متبايناً متعدِّدَ الأبعاد بفعل تلك التركيبة التراجيدية الكامنة في الفكرة نفسها، وفي تلك الأسئلة التي تجعل من الأندلس تتجلَّى في أكثر من وجه وصورة وكناية: فهل هي رمز للمنفى؟ أم للفردوس للمفقود؟ للفتوحات والمجد؟ أم للهزيمة وسقوط المدن؟ وهل هي نموذج كوزموبوليتي للتعايش والاندماج الحضاري؟ أم هي أرضٌ الصراعات من أجل الْمُلْك؟ تلك هي الأسئلة التي تجعل الكثير من ملامح لحظتنا أندلسيةً بامتياز حيث ضياع الأوطان، وعودة ملوك الطوائف، ومنفى الشعراء، واغتراب الإنسان، وإزاء هذا كلّه يبقى الشعر هو المدوَّنة الطليقة والشاهدة الحية والقيثارة الباكية. في مجموعته الشعرية الجديدة: «استجِبْ إنْ دَعتكَ الجبال- دار بلومزبري /مؤسسة قطر للنشر2015» يستجمع الشاعر التونسي محمد الغزي جانباً من تلك الأسئلة في زمن شعري ممتدٍّ من ذلك الماضي ليتجوَّل في الحاضر، حيث يفتتح أندلسياته بقصيدة عن ملك أشبيلية «المعتمد ابن عباد» الملك المخلوع، والشاعر المنفي في عصر الصراع بين ملوك الطوائف، ويصدرها بشطر هو نصف بيت لأبي بكر الداني: وقُلْ لي مجازاً إنْ عدمتَ حقيقةً.... وإلى جانبه يضع نصاً تاريخياً عن لحظة هزيمة المعتمد على يد المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين، وتسفيره هو وأسرته في سفينة إلى مدينة «أغمات» المغربية منفى الملوك المخلوعين، حيث ستكون نهايته وقبره! نحن أمام بطل تراجيدي إذن: ملك مخلوع وشاعر منفي، يبحر معه الغزي في رحلته المضنية تلك وصولاً إلى غربته وعزلته: «صِرْتَ الغريبَ هنا/ والذي كنتَ تحسبُهُ وَطَناً/ قَدْ غَدَا كَفَنا» وهو إذا يستعير مجاز قديماً من الداني فإنَّ مجازه الشخصي هنا يأتي خفيفاً محافظاً وأليفاً، بل يكاد، لفرط ألفته، يلتصق بالحقيقة نفسها، من هنا وضوح معانيه وصراحة قصيدته. وإذ ينادي بطله المكسور: يا ابنَ ماءَ السماء، فإنه يستدعي معه ذلك الإذلال الذي عبرَّ عنه المعتمد نفسه ببيت شعري من مرحلة منفاه بعد خلعه: «أَذَلَّ بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ زَمَانُهُمْ وَذُلُّ بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ كَبِيرُ». وعلى رغم أنَّ الطريق هذه المرة ليست إلى إيثاكا/ الوطن والبيت، وإنما إلى ساحل النفي والإبعاد، فإنها ستبدو طريقاً طويلةً أيضاً لكنها ليست مُمتعة وإنما ضاجَّة بالأسى والملل: «الطريقُ إلى أرضِ أغمات أبعدُ ممَّا هَجسْتَ» على إننا نقرأ في مكان آخر من قصيدة أخرى «الليل» ما يشير إلى أن ثمة بعداً شخصياً وحالة جماعية حاليَّة في تصوير تلك المحنة التاريخية للملك الأندلسي، لتغدو معها المحنة الفردية من مجرد رحلة منفى واغتراب في المكان، إلى رحلة تقارب التيه: «كلُّ الرعاةِ الذينَ اهتديتَ بهم قدْ تولُّوا/ وأعرضَ عنكَ رجالُ القيافةِ/ قلْ: كيفَ تبلغُ تلكَ البلاد؟» بهذا المعنى فإن اللحظة الراهنة في شعر الغزي غير منبتَّة عن الماضي فهي في قيامة مستمرة: «إنه التاريخُ أكملَ دورةً أُخرى/ وهذي الأرضُ قدْ صارتْ إلى بدءٍ جديد» «قصيدة القيامة» هذه البدايات الجديدة تبدو كأنها مستعادة دائماً وهنا يمكن ملاحظة مثاقفة داخلية في شعره لا بالمعنى التبادلي مع الآخر، وإنما بمعناها الجدلي مع الذات والتاريخ، وفي الاستعادة الاستعارية لإعادة شحن الحاضر بمقاربات من الماضي، هذه التأويلات المتلاحقة لوقائع التاريخ وإحالتها إلى شواخص تقريبية في الحاضر، تبدو ضرورية لدى قراءة شعر الغزي، وفي الشعر عامة، وإلا ما جدوى الشعر حين يكون مجرد محاكاة للأخبار البعيدة، ولا يتصل بما هو راهن وجدلي؟ أنه شعرٌ في مديح الهزيمة وزخرفة الانكسار شعر في تمجيد التيه العزلة والإشادة بالخيبة واليأس والاغتراب، تمتد قصائده وتتفاعل في مقاربة الشخصيات المهزومة، وصولاً إلى فارس الظلِّ الحزين: دون كيشوت: «أيُّها الباحثُ عنْ نارِ العالم/ في هذهِ الصحراءِ التي تكلِّلُها الثلوج/ ها أنتَ ترفعُ رايتَكَ عَالياً/ بعدما نكسنا نحنُ كلَّ راياتِنا». وإذ يبدو صاحب «سليل الماء» مغاربياً في موضوعاته، فإنه في اشتغاله اللغوي والشكلي والصوري في القصيدة، يبرح تلك الجغرافيا المفترضة ليتجلَّى مشرقياً، عروبياً، وإنسانياً، ويمتدَّ فضاؤه من موجات المتوسط والأطلسي إلى لمعان الذكريات في نهر الفرات، يبدأ من الجبال وينتهي بالنهر الذي عبره صقر قريش نحو مجد جديد، وإزاء الأندلس ثمة روما، فيمضي محاوراً تاريخ الأخيرة في رعاياها الهامشيين. وهو يصغي إلى تلك الجذور التي تندفع تحت الأرض، والبذرة الملقاة تحت الطمي، وفي إصغائه ذاك، لا يستغرق في الانشغال بالخارج، وإنما يعتكف إلى الباطن برويَّة وترسُّل، في غنائية تنمو من الداخل إلى الخارج، تنساب ولا تتراكم، فالصوت الداخلي هو المهيمن، لكنها هيمنة ناعمة، وليست صادمة أو صادحة. ولتحقيق ذلك النموّ يحاول الغزي أن يستثمر، بقدر وآخر، طاقات الفنون الأخرى، الفنون التي لم يكن الشعر بعيداً عنها في يوم ما، بل ظلَّ آدمَها الخلاق وظلَّتْ سلالتهُ التي انتشرت عنه، وربما حاربته في عصور متعددة بذريعة أوديب، لكنها لم تنجح في قتله نهائياً، فالحكاية تكاد تكون العمود الفقري لقصيدته، بيد أنها حكاية سحرية، لا تخلو من رمزية خفيفة، بسيطة لكنها عميقة، كأنه يدرج على نهج ابن المقفع في خلق إحالات متعدِّدة، ولعلَّ في تجربة الغزي مع الكتابة للأطفال ما يفسر هذا النزوع القصصي الرمزي السهل، فيما قصيدة «الظمآن» هي النموذج صريح لذلك النزوع. وحين أصفها بالحكاية، فلا أعني القصة بوصفها فنَّاً، وإنما بما تنطوي عليه الحكاية نفسها من سحر، فولكلوريةً كانت أم شخصية، تاريخيةً أم معاصرة، بل أنَّ ثمة حكايةً داخل الحكاية نفسها، حكاية يتولى روايتها هو وأخرى يرويها شخوصٌ من داخلها كما في قصيدة «عودة البحارة»: «عادُوا بحكاياتٍ مُفعمةٍ بروائحِ الطحالبِ/ مبلَّلةٍ بأمطارِ الشمالِ/ مُلفَّعةٍ بظلامِ الْمَوتى/ فَتِلكَ كانتْ غَنِيمتَهُم/ بعدما خَذلَهُم البحرُ./ ومزَّقَت الرِّيحُ أَشْرِعَتهمْ/ وألقاهمُ الموجُ في سواحلَ مهجورة». إلى ذلك ثمة طاقة مسرحية في قصائد الغزي، وإذا أقول طاقة مسرحية، فلا أحيل إلى الدراما الإغريقية، لأن قصيدته لا تتوافر على تعدد الأصوات، وإنما هي مونودراما ذات بعد واحد، صوت الشاعر فيها هو صوت الراوي، داخل القصيدة. وبعد هذا فإن صاحب «كثيرٌ هذا القليل الذي أخذت» شاعر إيقاع في هويته الفنية الأساسية، ولأن إيقاعاته ليست مجلجلة، على رغم بنائها الصارم، فإنه تأتي محبوكة، أو هي حبكة متمِّمة لحبكة بناء القصيدة لديه، ومع هذا يخاتل قارئه «بقصائد نثر» مدسوسة بين إيقاعيات كثيرة، وإذ أقول «يخاتل» فلأن تلك القصائد تبدو لوهلة ما طبيعيةً وعضويةً في تجربته لكن استقصاء عروضياً دقيقاً سيظهر لنا أنها قصائد خارج الوزن وإن احتفظَتْ بإيقاع ما، إيقاع العبارة الكلاسيكية الرصينة في «قصائد نثر» كما في: «الأمطار» «عودة البحارة» «الراوي» «القدوم» «حياتي» «الاستثناء» «كلمات» «فارس الظل الحزين» «الطريق ينشق أثناء السير» «نهر الفرات»... والملاحظ في هذه القصائد بالذات إيغالها في الشخصي مما جعلها أكثر تماساً بالتجربة الذاتية للشاعر من تلك القصائد الموزونة. لا يُقدم الغزي على مغامرة لغوية مُتطرِّفة ولا على ارتكاب صوري غير معتاد في شعره، أين تكمن خصوصيته أذن؟ إنها في القصيدة، في معمارها، في ذلك البناء المحكم، فهو يعرف أين يستوجب أن تنتهي القصيدة، في صفحة، أو صفحتين، أو تمتد لصفحات عدَّة! بل يعرف أين ينبغي أن تقف العبارة، وأين يجب أن تمتدَّ وتستغرق في الإنشاد، وفي اعتقادي إنه يمارس، بذلك، وعياً نقدياً صارماً على شعره، وهو ما خلق شكلاً من الهيبة الخارجية لقصيدته، مع هذه الشحنة الرمزية الباطنية التي تمنح تلك الهيبة رصانتها. إنه شاعر مضامين وأفكار لا شاعر تفصيلات يومية، شعر المعنى هو وصف مناسب لتجربة الغزي، وصف يضعها في سياق الشعر العربي الحديث، وإن في الجانب المحافظ منه.