الحراك الدبلوماسي السعودي التفاعلي المحموم لتصفير ملفات المنطقة الساخنة رسالة للعالم مفادها أن قضايا المنطقة لا تحل إلا عبر أهلها، كون أهل المنطقة أدرى بشعابها وسهولها وجبالها، ويعلمون كيف يمكن حلحلة مشكلاتهم وأزماتهم بعيدا عن التدخلات الغربية التي كرست الخلافات والتباينات بين دوله لتحقيق مصالحها وأغراضها السياسية الضيقة.. لقد شعرت دول المنطقة بتراجع مواقف الغرب وتحديدا واشنطن عن المنطقة وبالتالي نوعت خياراتها لتشمل الصين بدرجة رئيسة وبقية القوى الصاعدة عالميا.. وستبقى الولاياتالمتحدة، القطب العالمي الأكثر تقدما تكنولوجيا والضاغط إعلاميا وسياسيا والقادر على التأثير بشكل كبير على مستوى العالم. لا شك أن الدول العميقة العالمية غير مرتاحة ولا يريحها التقارب السعودي – الصيني، أو مشروع إعادة العلاقات مع إيران، أو التصالح معها، وإنهاء الحرب في اليمن، وعودة سورية لمحيطها. ويمكن القول إن السعودية تتبنى سياسة «تصفير المشكلات» و»صنع السلام» وتعظيم سياسة «السعودية أوّلا».. وعليه تقود حراكا سياسيا قويا في منطقة الشرق الأوسط المتوترة على كثير من الجبهات في مسعى لإطفاء كثير من الحرائق التي ظلت مشتعلة لسنوات من اتصالات وتحرّكات دبلوماسيّة لافتة في المنطقة، حرّكت المياه الراكدة وبثّت الأمل في إصلاح العلاقات الشرق أوسطية وإعادة السلام والوئام الإقليميين. تلك التحركات المكوكيّة التي لم تهدأ وتيرتها على وقع تداعيات اتفاق بكين الذي أعاد الحياة للعلاقات السعودية الإيرانية أخيراً، وفتح الباب أمام تسوية ملفات أخرى في المنطقة، على رأسها الملفان السعودي والسوري واليمني، وقريبا الفلسطيني واللبناني. وبعد قرابة ال10 سنوات من القطيعة بين البلدين، خرج بيان سعودي أكّد التّكهنات والتسريبات التي تحدّثت عن استئناف العلاقات الدبلوماسية السعودية - السورية، من بابها القنصلي، ورحّب وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ونظيره السوري فيصل المقداد ببدء إجراءات استئناف الخدمات القنصلية والرحلات الجوية. وقام وزير الخارجية السعودي على إثرها بزيارة دمشق وعقد لقاء تاريخيا مع الرئيس بشار الأسد في مؤشر إيجابي لعودة سورية كاملة إلى الحضن العربي، خصوصا أن عودة العلاقات السعودية - السورية ستكون بحسب مراقبين التطوّر الأهم على طريق إعادة سورية للجامعة العربية، وإعادة ترتيب جيوسياسية أوسع في الشرق الأوسط، فيما ترى بعض الأوساط الغربية أنه لا يمكن إعادة دمج سورية في المحيط العربي من دون بعض الأثمان، فواشنطن منغمسة في الداخل السوري، وبالتالي يجب أن تكون جزءًا من إعادة هيكلة الداخل السوري. حراك لإحلال السلام في اليمن وتحدثت تقارير أميركية عن تفاؤل دولي واسع باحتمالية إحلال السلام باليمن أخيراً مع توافر عوامل إيجابية عديدة بالمنطقة أبرزها التقارب السعودي - الإيراني، جنبا إلى جنب مع الحراك السعودي القوي لإيجاد حل مستدام للصراع المستمر منذ ثمانية أعوام مع قيام وفدان عُماني وسعودي إلى صنعاء للقاء قيادات الحوثي، ضمن جهود إعلان اتفاق جديد لوقف إطلاق النار ببنود موسعة، وصولاً إلى تسوية سياسية. ولأول مرة منذ فترة طويلة، هناك بصيص أمل جديد للسلام في اليمن، مع احتمالات قوية لوقف إطلاق النار من شأنه أن ينهي الحرب خصوصا أن وقف القتال في اليمن من شأنه أن يبشر بالخير بالنسبة للشرق الأوسط الأوسع. وتأتي المحادثات وسط تهدئة في العلاقات بين المملكة وإيران، وتركز المحادثات في اليمن على إعادة فتح مواني البلاد، وإعادة بناء البلاد، وتشكيل حكومة انتقالية. من جانبها اعتبرت صحيفة وول ستريت جورنال بأن احتمالية التوصل لهدنة طويلة الأمد باليمن يمكن أن تمهد الطريق نحو سلام دائم بعد ثماني سنوات من الحرب. وكان الوفد السعودي برئاسة سفير خادم الحرمين الشريفين لدى اليمن محمد الجابر قد اجتمع مع وفد الحوثي، ويعد الاجتماع المرة الأولى منذ اندلاع الحرب في مارس 2015 التي يتم فيها استقبال المسؤولين السعوديين علنا في صنعاء. وقالت المصادر التي رفضت نشر أسمائها لمناقشة المفاوضات الحساسة، إن خطة السلام الجديدة يمكن الإعلان عنها في الأسبوعين المقبلين، بموجب الخطة المقترحة سيكون هناك في البداية هدنة متجددة لمدة ستة أشهر، وسيتم إعادة فتح الطرق الرئيسة، وسيتم رفع جميع القيود المفروضة على الرحلات الجوية والمواني. وبعد ذلك تدخل الأطراف اليمنية في محادثات سلام وتناقش نزع السلاح وتشكيل حكومة ومجلس رئاسي جديد وتوحيد البنك المركزي، كما ستكون هناك فترة انتقالية مدتها سنتان. وتأتي الجهود الأخيرة بعد أن اتفقت السعودية وإيران على إصلاح العلاقات في محادثات رفيعة المستوى الشهر الماضي بوساطة الصين. وقد التقى وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان، رئيس مجلس القيادة الرئاسية اليمني، الدكتور رشاد العليمي، في الرياض الأسبوع الماضي. وأوضحت المصادر ل»الرياض» أن هناك تغيّرا حقيقيا وعميقا بطبيعة العلاقات في المنطقة العربية، خصوصا أن لدى السعودية قراءة مختلفة لطبيعة التحركات في المنطقة لإحلال السلام في المنطقة عقب اتفاق المصالحة السعودي - الإيراني، ومع الحراك الجديد لبدء التفاوض في اليمن، بهدف إنهاء الأزمة.. وأبدت طهران تفاؤلاً بالتوصّل إلى حل ينهي الحرب في اليمن، حيث قال الناطق باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني: «نأمل التوصل إلى هدنة مستدامة في اليمن، في ضوء الظروف الجديدة في المنطقة، للتمهيد لإطلاق مسار سياسي مستدام، بمشاركة جميع الأطراف اليمنية، فضلاً عن تأمينه مصالح الدول الجارة». وشدد كنعاني على أن بلاده تدعم تمديد الهدنة في اليمن، ومستعدة لتقديم المساعدات لدعم الحل السياسي، لافتاً إلى أن «هناك تطورات وتحركات جديدة في الملف اليمني». ولفت إلى أن آثار التطورات الإيجابية التي تشهدها العلاقات الإيرانية - السعودية ستنسحب على أوضاع المنطقة، وستكون لها «آثار إقليمية ودولية إيجابية للغاية». من ناحيته، قال المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ إن المحادثات السعودية العمانية مع قادة الحوثيين في صنعاء «تجعل اليمن أقرب ما يكون إلى تقدم حقيقي نحو سلام دائم». فيما قال معمر الإرياني وزير الإعلام اليمني في الحكومة الشرعية إن «الأجواء مهيئة أكثر من أي وقت مضى لتحقيق السلام». وذكر الإرياني في بيان أن «تحقيق تقدم في مسار الحل السلمي للأزمة يعد انتصاراً للشرعية الدستورية والتحالف بقيادة الأشقاء في المملكة العربية السعودية، كونه يكرس نهجنا في الوصول إلى السلام». وأوضح أن ذلك يأتي «خصوصاً في ظل التطورات الإيجابية الأخيرة في المنطقة، وأهمها الاتفاق السعودي - الإيراني». وتابع الإرياني: «نؤكد ترحيبنا بالجهود الاستثنائية التي يبذلها الأشقاء في السعودية لإحلال السلام في اليمن، ودعمنا الكامل لمساعيهم لتحقيق السلام في المنطقة، والانتقال بها من مرحلة النزاعات إلى مرحلة يسودها الاستقرار والأمن». وأثبتت المملكة مجدَّدًا مساعيها المستمرَّة للسلام، منذ أن قدَّمت مع الدول الخليجية المبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية عام 2011م، مرورًا بمبادرة المملكة عام 2021م؛ لإنهاء الأزمة والتوصُّل لحل سياسي شامل، وصولًا إلى تقديم الدعم المالي الكبير والمتتالي لليمن، وآخره إيداع المملكة في فبراير 2023م لمبلغ مالي قدره مليار دولار في البنك المركزي اليمني، كما تم تنفيذ صفقة تبادُل الأسرى الموقَّعة فعليًا، وتمَّ تنفيذ صفقة تبادُل الأسرى وعددهم نحو 887 أسيرًا من الطرفين، بطيران تابع للجنة الصليب الأحمر، على مدى ثلاثة أيام متتالية 14 و15 و16 أبريل. ومن بين الأسرى المُطلَق سراحهم، وزير الدفاع اليمني الأسبق اللواء محمود الصبيحي، واللواء ناصر منصور هادي شقيق الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي، والصحافيون الأربعة التابعون ل»الشرعية» والمُختطَفون منذ 2015م والمحكوم عليهم بالإعدام من جانب الحوثيين منذ عام 2020م بتُهم التجسس، وأبناء الفريق علي محسن عفاش، وشقيق نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي العميد طارق صالح، وعددٌ من أسرى التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن. تتّسِم الجهود السعودية بالطابعين السياسي والإنساني، وتكتسب أهمِّيتها، مقارنةً بما سبقها من جهود لإحلال السلام في اليمن، لكونها تأتي بعد أسابيع قليلة من الاتفاق السعودي - الإيراني على عودة العلاقات الدبلوماسية، بما يوفِّر بيئة تهدئةً قد تكون مواتية لحلحلة بقية الملفات الخلافية، مثل: قضية الرواتب، وقضية غلق الطرقات الرئيسة بين المحافظات الخاضعة للحوثيين والمحافظات الخاضعة للحكومة، وإعادة استخدام المواني والمطارات اليمنية، ودفع أجور الموظَّفين العموميين، وعملية إعادة الإعمار، تمهيدًا للجلوس على مائدة المفاوضات؛ لتسوية تخلق بيئةً مواتية لسلام مُستدام في اليمن. لذا؛ يأتي الدور المحوري السعودي الأخير في حل الأزمة اليمنية متّسِقًا مع متغيِّرات إقليمية ودولية قد تدفع جميع الأطراف للسير قُدُمًا، نحو إيجاد حل سياسي شامل لهذه الأزمة. يأتي من أبرزها، الظرف الإقليمي المواتي نحو السعي لتهدئة الأوضاع في دول المنطقة، وترجيح كفّة المصالح المشتركة في تهدئة وترتيب الشؤون الإقليمية، ونقل المنطقة من مرحلة التوتُّر إلى مرحلة التعاون والتنسيق، وإيقاف النزاعات والاقتتال الداخلي، والتركيز على تحقيق تطلُّعات شعوب المنطقة في مستقبل أفضل يعُم فيه الرخاء والازدهار والتكامل الاقتصادي. فالسعودية تنظر إلى تداعيات تأثير إدامة الأزمة اليمنية، وكذلك السورية واللبنانية، ضمن منظور أشمل يتماشى مع إستراتيجيتها العليا في تحقيق «رؤية 2030». أمّا بالنسبة لطهران، فتفرض عليها الضغوط الداخلية والخارجية نوعًا من محاولة إحداث تغييرات سياسية ضرورية لتفادي تفاقُم الأوضاع أكثر. ومن أبرز مظاهر الظروف الإقليمية المواتية الدافعة نحو حل للأزمة اليمنية، الاتفاق بين السعودية وإيران، الذي أكَّد على احترام سيادة الدول، وعدم التدخُّل في شؤونها الداخلية، والاتفاق على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقَّعة بين البلدين في أبريل 2001م، والاتفاقية العامة للتعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب الموقَّعة في مايو 1998م، بالإضافة للتعبير عن حرص هذه الدول على بذل الجهود كافة لتعزيز السِلْم والأمن الإقليمي والدولي. لذا؛ يمكن اعتبار الحراك، الذي يشهده اليوم الملف اليمني، والتقدُّم الذي أحرزته المحادثات بين السعودية والأطراف اليمنية الفاعلة في الأزمة خلال الفترة الماضية هو نتيجة مباشرة للتطوُّرات الإقليمية، خاصةً عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران. وعن تأثير كل ما يجري إقليمياً على الداخل اللبناني تقول المصادر إن الأجواء تتجه لحلحلة الصدام الحاصل ما بين رعاة الأطراف في الساحة اللبنانية أولا، وأشارت إلى أن واشنطن لن تعطل المسعى العربي للتقارب مع النظام، لكنها لن تسهم به ولن ترفعه إلى طاولة أشمل. المسارات الدبلوماسية التي تبنتها المملكة وانتهجتها دول المنطقة صنعت تفاؤلا بمرحلة جديدة سمتها «الاستقرار وتغليب المصالح الاقتصادية والتنموية» على «الصراع السياسي والعسكري» ولقيت إشادة دولية وأممية.