لم نعهد أن تكون بلادنا العربية في تنازع أو مكايدة مهما تجددت الظروف وتغيرت الأحوال، الوطن العربي واحد؛ هكذا تطلق عليه كلمة الوطن، لأنه وطن عربي بشرقه وغربه مهما تناسل الأجداد ومهما تناثرت القبائل.. مما لا شك فيه أن كل عربي أصيل تنتابه نشوة عميقة عندما يتجول في أرجاء وطنه العربي، وهو ما أدركته حين اتصل بي أحد أساتذتي -مدرس اللغة العربية وأنا في مراحلي الأولى من الدراسة- تحدث معي بشوق كبير لتراب الوطن الذي تطؤه قدماه، فكان يصرخ عبر الهاتف: أنا الآن فوق السحاب، وكان يتحدث من على قمم جبال عسير من على جبال أبها البهية الساحرة الخلابة، ذات الغابات والحدائق الغناء. لم يكن يصيح فرحا لرؤية الحدائق والمروج والقمم والسحاب المتدفق بين قدميه، فهو من أرض مصر الحبيبة، من أرض الكنانة وجنة الله في أرضه، فلا ينقصه حدائق أو غيوم، وإنما كانت بهجته تلك، لأنه يقف على متن أرضه العربية التي شكلت الهوية العربية لغة وعقيدة ونسلا؛ وقل ما تشاء! وهو ذلك الشعور الذي انتابني وأنا أقف على أطراف المحيط بأرض المغرب الحبيبة ثم انتابني الحس نفسه وأنا أقف على آخر صخرة على ضفاف الخليج العربي، وأنا أتأمل بعمق دفين -وكأن هامتي تلمس أو تكاد عنان السماء-: هذا هو وطني من شرقه إلى غربه وبلا منازع. ما من شك أن قارئي الكريم يشاركني هذا الحس الخفي تجاه أرضنا العربية بوهادها ورمالها ومدنها وقراها وفنونها وأهلها الطيبين، فيداعب عبق الأجداد أنوفنا وتنزلق أمجادهم إلى عمق وجداننا، وكأننا طائر الرُخ المحلِّق، ولكنه طائر سرمدي عبَر كل الأزمنة لهذه البقعة النفيسة على وجه الأرض. وبخيال محلِّق عبر صفحات بيضاء وسوداء وزرقاء، وبكل ألوان الطيف، نقاوم رياحا عاصفة تحرك كثبانها، حين نجد أو نسمع أقاويل وسباب، وسباب وتلاسن، فيشتد بنا العطش، الذي يبدده ثراها حين نلثمه، فتنتابنا جميعا نشوة عميقة من الطاقة المُلِّحة على أن نكمل الطريق لنشعر بالارتواء، رغم دهاليز مساراتها الصعبة كزغب الحبارى، حينما يتبادر لها زغب صغير فتحاول الطيران لأول مرَّة، فتطير بشوق ولهفة، إلاَّ أنها لا تحلق إلاَّ بضع خطوات؛ ولطالما تمنَّى الفرد منَّا الطيران ولو للحظات، ليرى منظراً أوسع وأشمل لهذه البلاد العربية وأمجادها، التي قال عنها (ويلفريد ثيسيجرWilfrd Thesger 1910-2003): "لقد كنت أفكر في أثر العرب على التاريخ العالمي، لقد فرض أعراب الصحراء ميزاتهم وخصائصهم وتقاليدهم على الجنس الغربي كله، فالعادات والمعايير التي شملت جزءاً كبيراً من العالم، كانت كلها قادمة من الصحراء". لم نعهد أن تكون بلادنا العربية في تنازع أو مكايدة مهما تجددت الظروف وتغيرت الأحوال، الوطن العربي واحد هكذا تطلق عليه كلمة الوطن، لأنه وطن عربي بشرقه وغربه مهما تناسل الأجداد ومهما تناثرت القبائل. إن ما هالني في دراستي الكبيرة -التي تعدت الألف صفحة وكنت أبحث فيها عن ملامح شخصية ابن الجزيرة العربية- هي نتيجتها التي ظهرت في تشكل ضمني ومعنوي وملموس لابن الوطن العربي برمته، حيث عبرت الحدود وتناسلت في أرجائه مكونة ملامح واحدة متسقة مكونة من دماء وأعراق وأنساب متصلة؛ فلم يكن هذا نتاج تعبير أو إنشاء، وإنما نتاج دراسة علمية أكاديمية جادة ومتجردة. فبعد التطور والتحديث، وما طرأ على الشخصية العربية كان لنا تساؤل مهم ألا وهو: من أين جاءت لنا تلك الألسنة الحداد، تقطع في مفاصلنا وتنشب أنيابا حدادا في اللحمة العربية من شعب وأبناء، لمجرد سماع وأقاويل أو حتى حقائق إن ضاقت الحدود؟ وما هو جين تكوينهم؟ وممَّ صِيغَت ألسنتهم؟ وكيف تأثرت؟ كلها أسئلة محيرة تحتاج إلى أبحاث ودراسات، فكيف ينهش اللحم بعضه، في زمن تتناثر فيه دماء وأشلاء إخواننا في كل اتجاه من هذا الوطن الذي تحاول دول وعصابات التكالب عليه ولم يعد ذلك خافياً على أحد! وفي ضوء ما حدث هنا وهناك من بعض العناصر الباحثة عن صوت مجلجل في بوق مثقوب، وجدنا على الضفة الأخرى ذلك الإخاء الكبير المتخلي عن كل الشوائب المتعلقة ببعض الأذهان، ولم يكن ذلك بدافع المنفعة أو حتى الشوفونية، وإنما كان بدافع الانتماء لوطن واحد وهوية واحدة ودم وأعراق وأنساب ولغة وكل مكنون الهوية الواحدة كما كان حس أستاذي وهو يقف على ضفاف عسير. لم تكن سطوري هذه منافحة أو مزايدة على أحد، فنحن نعلم ذلك العشق الدفين بداخل كل عربي لأرضه ولوطنه، ولكنه تلمس لملامح بعض الشخصية الطارئة في ضوء العولمة وفلسفتها، إنه سعي وتأمل للوقوف على حافة المسار الحضاري الذي عاشته هذه الأمة، وتحديد ملامحها، خشية عليها من هبوب العصر الحديث!