هناء جابر روائية وكاتبة لها مع الحرف والكتابة تواشج حميل، وربما أنها كانت تحدس بهذا المآل، رواية "تحت شجرة السدر" ترجمة لهذا العشق للرواية. عن هذه الرحلة تقول: "منذُ سنٍّ مبكرة تصوّرتُ أنّي سأصبح كاتبة روايات، كنتُ في طفولتي أصنع عوالم خيالية طوال الوقت، وأفقد نفسي داخلها. لكن، بعد كل رواية عظيمة أقرؤها، أعي أكثر حجم الصعوبات التي سأواجهها وأقول: لا يمكن لي مجاراة هذه الأعمال، ارتبتُ من فكرة الكتابة، خشية الوقوع في دائرة أخطاء السرد وحيثياته. وفي عام 2018 بدأ الهاجس، وشعرتُ بحاجة قهرية للكتابة عن الاكتئاب، أعلم أن أفضل طريقة لتعيش الحقيقة في أذهان الناس أطول فترة هو نسجها في سياق سردي. فنّ الرواية تحديدًا له طابعه الخاص والمؤثر في النفوس، ومن هنُا بدأتُ بكتابة الرواية وأنا لا أملك أدنى فكرة إلى أين سأذهب، تجربة جديدة امتهنتها بخجل، وأوقدت شموعها على استحياء، كان أوّل ما عملتُ عليه "بناء الشخصيات"، تشكّلت الشخوص، صار يمكنني أن أراهم بوضوح، أسمع أصواتهم، أشم روائحهم، أشعر بانفعالاتهم، وأضع نفسي مكانهم أحيانًا، فأكون الكاتب والشخصية والقارئ معاً. لكل شخصية تكوينها النفسي، ومشكلاتها، ورسائلها، بدأتُ بعد ذلك في خلق أجزاء من الحوارات، وصور من الأحداث، ثم بدأت الشخصيات تستخدمني بدلًا عن أن أستخدمها، كانت تتلاعب بي، تفعل أشياء لم أخطط لها ولم يكن بوسعي تخيّلها. وجدتُ نفسي أكتب منساقةً مع دوافعهم وليس وفقًا لخطّة شخصية، حتى وصلوا بي إلى مصائرهم، عامان وأنا أستخدم مخيّلتي وأوقظ حواسّي للقبض على المشاهد، وكتابة جمل بالغة الحسّية بلغة تفصيلية تجعل من الحكاية أدبًا، قرأتُ الفقرات بصوتٍ عالٍ، إن لم تعجبني كلمة استبدلتها بأخرى تنجح في استدعاء الشعور المطلوب أو تصف الحالة بدقة، أحاسب نفسي: ما الذي أحاول قوله هُنا؟ ما هذا الإفراط في استخدام النعوت؟ ما هذه الاستعارة الميّتة؟ هل يمكنني صياغة الجملة بشكل أقصر؟ حملتُ قصتي في داخلي، في الصباح، في المساء، حين أتناول طعامي، حين أمارس رياضتي، برفقة أصدقائي، وسط عائلتي، في كامل عافيتي، وفي وعكاتي الصحية. كنت أتنصّل برفق من صِلاتي بهذا العالم، سرقتني تلك الحكاية واستعبدتني، في مرحلة من مراحل الكتابة بدأَتْ أعراض كثيرة من أعراض الاكتئاب تظهر عليّ، لم يرعبني ذلك، كنتُ أعلم أني أتفاعل نفسيًا مع الشخصية المُتعَبة في الرواية، وأني سأكون بخير فور انتهائي منها. تعدُّد الشخصيات، تنوّع المواضيع، وفرة الأحداث وتقاطعها، تقنية الاسترجاع الفني في السرد، كل ذلك جعل من كتابة الرواية مهمّة ليست سهلة، لكنها ممتعة إلى أقصى حدّ. شعرتُ بالإثارة وأنا أتنقل ما بين الماضي والحاضر، أربط ما بين الأزمنة، وأملأ الفجوات عن حياة الشخصيات، أستفز حيرة القارئ حينًا وأرضي فضوله في حينٍ آخر، في بعض الأيام تأخذ الصور والكلمات والجمل في التدفق، أجلس على الكنبة في زاوية الغرفة، أقضي الساعات وأنا أخلق القصة وأحبكها، وبعض الأيام تكون أقل إثارة للبهجة، يحبس الإلهام نفسه عنّي، فتجفُ الموارد وتموت الكلمات، ما مِن وضع أكثر صعوبة لأي كاتبة من أن تكون أُمًّا، الحفاظ على صفاء الذهن واغتنام أوقات هادئة للكتابة والاسترسال فيها دون مقاطعة، عملية معقدة جدًا في وجود الأطفال، كان ذلك من أصعب التحدّيات التي واجهتها، وصلنا لخاتمة الحكاية بعد أن أدّت كل شخصية دورها كاملًا، وفي لحظة استيعاب، تنبّهتُ إلى أن الأمر انتهى. خامرني شعور غريب بالنشوة والألم، مسرة الإنجاز وكآبة النهايات، الأمر أشبه بأن تغادر مكانًا سكنته طويلًا دون رجعة، أن تجمع نفسك وتوضّب حقائبك لتودّع كل مَن فيه، أما انتصاري في تلك اللحظة كان في إدراكي لما كانت تقصده جوان ديديون عندما قالت: الكتابة هي فعل أن تقول (أنا)، أن يفرض المرء نفسه على آخرين، أن يقول استمعوا إليّ، انظروا إلى الأمر بطريقتي، غيّروا آراءكم، إنها ممارسة عنيفة، وعدوانية أيضًا. وضع الكلمات على الورق أسلوب المتنمر السري، إنه احتلال، فرضٌ لعقلية الكاتب على أكثر مساحات القارئ خصوصية.