قبل مدة من الزمن وقع في يدي كتاب بعنوان «حين يصبح النَفَسُ هواءً When breath becomes air» لبول كالانيثي Paul Kalanathi فتلقفته بلهفة عارمة وشغف كبير، إذ إن الثناء عليه لا يكاد ينقطع والحديث عن جمال حروفه لا يكاد يكُف، يدل على ذلك تربعه على ما بات يُعرف بقائمة الكتب الأكثر مبيعاً. زاد من تلهفي على هذا الكتاب بالذات أن مؤلفه طبيب، ولديّ ميل لقراءة كُتب الأطباء العامة وسيرهم الذاتية التي احتفظ بالكثير منها، قلت لعلّي أجد فيه متعة كما وجدت في كتاب «في الفناء On being mortal» لآتول غواندي، أو كتاب الطبيب البريطاني الشهير هنري مارش «غرف التنويم: حياتي كجراح مخ وأعصاب admission: a life in brain surgery»، أخذت أقرأ كتاب كالانيثي هذا فشعرت بنوع من الكآبة الشديدة وأنا أتلمس طريقي في الصفحات الأولى من الكتاب الذي طوّحت به جانباً عندما بلغت الصفحة الخمسين ولم أعد إليه مرة أخرى. يحكي الكتاب بالتفصيل الدقيق حكاية طبيب شاب متعلم غاية التعليم ومُدرَبُ غاية التدريب، لا يزال يسبح في ميعة الصبا والشباب، يجد نفسه فجأة يصارع واحداً من أعتى أنواع السرطانات وأكثرها فتكاً، والذي لم يستطع الإفلات من إساره حتى قضى عليه (نُشر الكتاب بعد موت المؤلف). منذ تلك التجربة المرّة في القراءة وأنا أتجنب هذا النوع من الكتب، فغاية القراءة عندي أن تجلب لي السعادة وتدفع عني التعاسة، وإن لم يتيسر إلى ذلك سبيلاً فحسبها أن تساعدني في التفكّر والتبصر في الأمور من خلال القصص والمواقف والرؤى التي ينسجها أصحابها، وأنا على هذا النهج أسير حتى اطّلعت مؤخراً على كتيب صغير للروائي الأمريكي الشهير ويليم ستايرن Willian Styrn الذي يسرد فيه بأسىً ولوعة الوهدة العميقة التي سقط فيها بفعل الاكتئاب وهو -أي الاكتئاب-علة مستشرية بين الناس. بدأت ألتمس طريقي في دروب الكِتاب المعتمة وأزقته الخانقة، ولم يفت عن بالي التوجس القديم من هذه الكتب التي تجلب لنا تعاسة نحن في غنى عنها، لكنني واصلت القراءة على فترات متقطعة، وبلهفة أخذت تزداد صفحة بعد أخرى. يبدأ الكتاب بمشهد في مدينة باريس نزولاً عند رغبة جهة أدبية هناك كرمته بجائزة رفيعة، ولكنه وصلها وقد أحكم المرض قبضته عليه، لم تكن تلك الجائزة التي ظفر بها هناك لتبدد تلك السحابة حالكة السواد التي تجلله، ولم تكن تلك الموائد التي أقيمت احتفاءً بهذا الأديب القادم من الولاياتالمتحدة لتقضي على تلك الأوجاع التي تمكنت منه، ولم تكن تلك الابتسامات التي أمطروه بها كافية لإدخال البهجة والسرور عليه، إذ إن داء الاكتئاب ينزع الفرح من قلب صاحبه فلا يرى سوى ليل حالك السواد. يمضي بنا ستايرن في وصف الأيام والليالي التي تلت تلك الحادثة، حيث تتدهور صحته في تسارع خطير، فهناك عزوف عن مباهج الحياة وملذاتها، وإحساس بالتعب الشديد، وأرقٌ يحرمه من لذيذ النوم، وزهد في مخالطة الناس، ونفور من الحديث إلى الآخرين، ونزوع نحو العزلة، وتفكير سوداوي قاتم، يلوح أمامه شبح الموت، وتتراقص في مخيلته صور الرحيل، ويصل إلى مرحلة يفقد فيها أي أمل في الشفاء، يقوده تفكيره إلى مفازات أخرى، حيث يشعر بأنه يرى الأشياء والوجود رؤية مودع فيعرج إلى محامٍ لتسجيل وصيته، ويضع يده على دفتر يومياته فيمزقه. يتناول بعد ذلك ستايرن بالحديث والتحليل طائفة من الأدباء الذي زحف عليهم هذا الداء، فمنهم من استسلم له وأذعن، ومنهم من خرج سالماً معافى، ومنهم من صار بين المنزلتين فلا هو تخلص منه البتّة ولا هو سقط في غوره الموحش الكئيب. عانى هارت كرين- الشاعر الأمريكي الشاب- من نوبات شديدة من الاكتئاب لم يستطع تحملها، فما كان منه سوى القفز من أعلى السفينة التي تقله ليستقر في قاع خليج المكسيك طُعماً لحيتان المحيط، وكذا فعلت فرجينيا وولف التي أسلمت نفسها لنهر «أوز» لتموت غرقاً، أما همنغواي فكانت نهايته بطريقة مختلفة، حيث أطلق النار على نفسه ليموت منتحراً برصاصة مسدسه الخاص. بعد أن استحكمت حلقات الحزن، وأيقن ستايرن أنه سقط في وهدة الجنون، تلوح من بعيد ومضة من أمل مخاتل، يذرع الأزقة بحثاً عن أطباء ومشافٍ عله يجد ترياقاً لهذا الداء الذي يلتف حول رقبته كثعبان سام، يغشى أكثر من عيادة طبية، ويعبُ من عقاقير شتى، ويصغي لنصائح عديدة، بعضها من مصادر طبية، وأخرى من آخرين سلكوا ذات الطريق وشربوا من ذات الكأس، في لحظة قرر أن يذهب إلى المستشفى ليس زائراً لإحدى العيادات ولكن كمريض يحتاج إلى رعاية طبية تأخذه لأسابيع، شعر للوهلة الأولى بنوع من السكينة تغشاه هناك، فالمكان أشبه بسجن لطيف، فلا مجال هنا لأفكار التخلص من الذات منتحراً، استقر الرأي أن يخضع للعلاج المكثف الذي يحتوى على ثلاثة أشياء رئيسة: العقاقير الطبية وجلسات البوح الاستشفائية والرسم. بعد فترة زمنية أمضاها في المشفى خرج ستايرن مشافًا من هذا الداء، ومبرأً من تلك العلة التي جثمت على صدره طويلاً. يذكر أن إحدى علامات التشافي من هذا المرض أن روح الدعابة والمرح تعود إلى الإنسان ولكن ثمة شيء يجب على الإنسان المعاصر الذي يقع نهباً لأمراض العصر ومنها الاكتئاب أن يدركه، وهو أن هذا الداء -الاكتئاب- مخاتل وقد يعود مرات ومرات، وقد يأتي في صورة غير تلك الصورة التي أتى عليها في المرة الماضية، وقد يأتي تارةً خفيفاً رحيماً، وتارة أخرى قاسياً مؤذياً. لا شك أن كتاب ويليم ستايرن «الظلام الذي نراه Darkness visible» من الكتب التي تناولت بطريقة سردية ماتعة التجربة الإنسانية التي عاشها صاحبها لنجد في قراءتها لذة فكرية ومتعة ذهنية على الرغم من أن موضوعها مؤلم وموحش ومنفر للقارئ، لكن لنتذكر أن من أهم وظائف الأدب أن يكشف لنا عمق التجربة الإنسانية ويبرزها لنا لنراها بأم العين.