المؤتمر لا يقتصر على هذه التجربة العمرانية التاريخية الفريدة بل يركز على مشكلات الحاضر فقد توسع المسجد في الانتشار وصار يخوض غمار العولمة المعمارية، ولكن للأسف بنفس الأدوات القديمة، أو لنقل دون اجتهادات علمية رصينة موثوق بها.. أحد محركات التطوير هو البحث العلمي، وعندما يتعلق الأمر بالمساجد وعمارتها فنحن هنا نتحدث عن ظاهرة كونية وهي الصلاة المرتبطة بمبنى كوني هو المسجد وهو ما يجعل مسألة البحث العملي واسعة ومتنوعة وتخضع لمعايير مرتبطة بالمحليات الدقيقة والمبادئ الكونية التي يقوم عليها المسجد في آن واحد. ولأن هذا المبنى لا يعزل نفسه عن الحياة اليومية ويندمج مع حياة الناس أو هو بالأحرى يحدد بدقة الجدول اليومي لحياة الناس، المنتمين للإسلام، وهم ربع سكان العالم تقريبا، ومنتشرين في كل بقاع الأرض، فهذا يجعل منه فعلا الفضاء الأول الذي يساهم في تحديد البنية الحضرية والاجتماعية للمسلمين وللجاليات المسلمة في كل مكان في العالم. الصلوات الخمس هي مواقيت زمنية "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا"، وهي ليست مجرد مواقيت لأداء الصلاة بل هي من أجل تنظيم البرنامج اليومي وتحديد تفاصيله بصرامة عالية. هذا ما يثيره المؤتمر العالمي الثالث لعمارة المساجد الذي سيعقد في الكويت من 14-17 نوفمبر الجاري والذي تنظمه جائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد بالتعاون مع جامعة الكويت في مركز الشيخ جابر. يتخذ المؤتمر شعار "المسجد: مبنى عابر للثقافات"، وهو شعار تطور عن تاريخ ثقافي طويل امتد لأكثر من 14 قرن واجه فيها "المسجد" تحدي "المحلية" وخصوصيتها التي عادة ما تكون مرتبطة بجذور المكان لكنه في نفس الوقت مبنى ذو وظيفة صارمة لا يمكن تكييفها حسب هوى المكان وهذه الوظيفة مرتبطة باتجاه صارم لكنه مرن (اتجاه القبلة) مهما كان ظروف المكان ومناخه وطبيعته التقنية. هذه الصرامة تجعل المكان نفسه يتكيف مع خصوصية المسجد الثابتة على مستوى الوظيفة المتغيرة على مستوى الاتجاه. من خلال النظرة التاريخية المتفحصة لسلسال التكيفات المكانية التي استجابت لعمارة المسجد تتشكل ظاهرة مهمة وهي أنه رغم ما يبديه المسجد من صرامة إلا أنه كان مرنا بدرجة قياسية ليسمح للثقافات والهويات والتقنيات المحلية أن تشكل عمارته التي تتسم بالتنوع والتجديد. والذي يبدو لنا أن الأنماط المسجدية التي تولّدت عن هذا التنوع لم تُدرس على أنها منتج ثقافي بقدر ما قُدمت على أنها تنوع نمطي نتيجة للجغرافيا والمناخات والتقنيات المحلية. المؤتمر لا يقتصر على هذه التجربة العمرانية التاريخية الفريدة بل يركز على مشكلات الحاضر فقد توسع المسجد في الانتشار وصار يخوض غمار العولمة المعمارية، ولكن للأسف بنفس الأدوات القديمة، أو لنقل دون اجتهادات علمية رصينة موثوق بها. الإشكالات التي تواجهها عمارة المسجد تبدأ من الترابط الحضري وإمكانية خلق فضاءات معاصرة حول المسجد تستوعب الحركة (المركبات والمشاة) وفي نفس الوقت لا تعزل المسجد حضريا لأن الأصل في المسجد الاجتماع والترابط "لتعارفوا" وهذه قضية من القضايا غير المرئية، وأقصد هنا أنها مرتبطة بالمعاني الكامنة التي عادة ما تولدها العمارة، لكنها في حالة المسجد أصبحت نمطية وشبه مسلم بها دون أن يبذل أحد جهدا حقيقيا لصناعة عمارة تجريبية تختبرها. هذا ينطبق على القضايا التقنية والسلوكية وحتى التشكيلية/البصرية التي تمثل شخصية المسجد وهويته. ويبدو أن المفارقة التي عليها العمارة المسجدية المتمثلة في الحد الفاصل بين ما كان تاريخيا، خصوصا على مستوى تشغيل المسجد، وبين ما هو معاصر يمثل أكثر القضايا إلحاحا، والتي يظهر أنها تحتاج إلى إعادة تعريف المسجد كمؤسسة اجتماعية مستقلة، ونقصد هنا "كل مسجد" يفترض أن يكون مؤسسة مستقلة. تاريخيا كان المجتمع المحلي يدير المساجد ويعتني بها ويشغلها وتطورت هذه العلاقة كي ينتمي المسجد إلى هذا المجتمع ويطلق عليه أفراده "مسجدنا" فهم يملكون المسجد ويديرونه. هذه العلاقة الثقافية والمجتمعية شبه انقطعت في وقتنا المعاصر ولم يتطور بدائل عنها سوى رعاية الدولة للمساجد، مما جعل الرابطة المباشرة بين المحيط المجتمعي والمسجد تتراجع وتضعف بشدة. نحن لا نتوقع من المؤتمر أن يقدم حلولا لهذه القضايا، ولكن نتوقع أن يثير حولها جدلا علميا ونقديا ويلفت انتباه متخذي القرار والمتبرعين وكذلك المصممين والمتخصصين الأكاديميين إلى أن المسجد ليس مجرد مبنى، بل هو ظاهرة عمرانية يتقاطع داخلها المجتمع وخصوصية المكان والعمارة (جمالياتها وتقنياتها) وهذه الظاهرة ليست يسيرة أو تلقائية كما يتعامل معها الغالبية العظمى بل هي ظاهرة متشابكة وتتطلب الكثير من الجهود لتطوير بعض الحلول لقضاياها. لعلنا نؤكد هنا أن هذا المؤتمر في نسخته الثالثة ونُسخه القادمة، بإذن الله، يضع قضية عمارة المسجد كأولوية علمية ومهنية وثقافية وسيعمل على ترسيخ هذه القضية في أذهان جميع المهتمين حول العالم.