ربما يكون من الضروري التحدث عن التحولات الفكرية المعاصرة في مجال النقد المعماري إذ إن هناك روابط حضرية اساسية صارت تحتاجها المدن، فثقافة الحديقة المنعزلة المحاطة بأربعة أسوار صارت تختفي من قاموس المصممين الحضريين ومعماريي البيئة هذه الأيام لأن الهدف أصبح اكبر بكثير من تلك الاهداف الترفيهية التجميلية المحدودة التي كانت تسيطر على أذهان الكثير من العاملين في هذا المجال. والحقيقة أننا ننظر لهذا التحول على أنه نوع من إعادة تعريف الفضاء الحضري المفتوح في المدينة، لأن هذه الإعادة أو لنقل الاستعادة لعمارة الطبيعة المفتوحة المتداخلة مع النسيج الحضري تجعل من المدينة كلها جزءا من الفضاء الطبيعي "المصمم". إن نقاد العمارة، نادرا ما يتناولون عمارة الطبيعة في أعمالهم النقدية ونادرا ما يتحدثون عن إعادة تنظيم الفضاء العام، لأنهم يريدون شواهد معمارية كي يتكلمون عنها فيسهبون في الوصف والحديث عن المقاس والتقنية والوظيفة ويهملون بشكل كامل علاقة المبنى بما يحيط به. يتناسون بصورة غريبة أن هذا المبنى جزء من محيط لا يمكن أن نفصله عنه وأن نجاح هذا المبنى هو في مدى ارتباطه وتواصله مع ما يحيط به. ونكاد نجزم، أن سبب انفصالنا عن الطبيعية هي حالة الدفاع عن النفس والانعزل التي عادة ما يحتاج لها الانسان فطريا لحماية نفسه أو لتحقيق أكبر قدر من الخصوصية، فثقافة الاسوار والجدران العالية التي حولت المدينة إلى كائن بلا روح وجزأتها إلى "حويصلات" تلفظ الاخرين ولا تعترف بوجودهم بينما تحيط بالبعض وتفصلهم عن المدينة هي السبب الرئيس في هذا التشرذم الحضري التي تعيشه مدننا المعاصرة. عمارة البيئة وتصميم الطبيعة يحاولان أن يفككا هذه العقد الانسانية، فإذا كان الانسان يحتاج للعزلة والاستقلال أحيانا فإن هذا يمكن حصره في العمارة "الأسرية" (المساكن) وبشكل محدود كذلك، لكن عمارة المدينة بكل وظائفها يجب أن تكون مرحبة بكل انسان ويجب أن تفتح ذراعيها لكل من يسكن ويزور هذه المدينة. بكل تأكيد نحن بحاجة إلى توازن دائم بين عمارة المحتوى ومحتوى العمارة، نحن بحاجة إلى أن نعيش في مدن مستقرة فراغيا ووظيفيا ومترابطة حضريا واجتماعيا. نستطيع أن نتحدث عن قضيتين مترابطتين إحداهما هي "عمارة المحتوى" والأخرى هي "محتوى العمارة"، الفكرة الأولى تعتمد على حالة نقدية جدية صارت تعرف بعمارة المحيط أو عمارة المحتوى Contextual Architecture وتعني بشكل مباشر علاقة المباني بعضها ببعض ومدى ترابطها وتناسقها سواء على مستوى المحيط المباشر للمبنى أو على مستوى علاقة المبنى بالمحتوى المعماري الشامل للمدينة، وهذا يتطلب فهما عميقا لمبادئ "تصميم الطبيعية" أو ما يسمى عمارة البيئة Landscape Architecture ولعل هذا التوجه الجديد في النقد المعماري يصنع حراكا فكري يبتعد بالنقد المعماري عن الذاتية ويجعله موضوعيا أكثر لأن دراسة عمارة المحتوى سوف تسلط الضوء على جوانب إنسانية متعددة ربما غفلها كثير من المهتمين بالعمارة في السابق. إن مجرد محاولتنا الخروج من المبنى وفهم العلاقة المركبة التي تصنعها المدينة سوف يجعلنا أكثر حساسية في عملية اتخاذ القرار الحضري الذي يتطلب رؤية إنسانية عميقة وواسعة يغفلها كتاب العمارة في العادة، فمثلا هناك كثير من القرارات الحضرية أدت إلى تفكيك البنية الاجتماعية خصوصا عندما استحدثت الطرق السريعة التي فككت البنى العمرانية التقليدية، ونذكر هنا على سبيل المثال أن المدن القديمة في المملكة كانت متماسكة بشكل عميق من الناحية الاجتماعية وعندما شقت داخلها الطرق تفككت تلك البنى وانهارت اجتماعيا وهجرها أهلها. "محتوى العمارة" هي حالة نقدية أساسية ربما تشكل عصب النقد المعماري بشكل عام، فنحن في الغالب نتحدث عن المبنى المنفرد وما يحتويه من وظائف وجماليات وتقنيات وننغمس في هذه التفاصيل، وهو أمر مطلوب ومهم، لأنه جزء من عملية التعليم والوعي المعماري وهو جزء من ثقافة العمارة بشكل عام. نقد المحتوى المعماري ربما يتطلب بعض التوازن كي يكون مفيدا ومؤثرا، فعندما نبدأ من العام إلى الخاص ربما نستطيع أن نفهم الخاص بشكل أفضل، والذي نقصده هنا هو أنها عندما نبدأ بنقد علاقة المبنى بالمحيط المباشر وبمحتوى المدينة ككل يتولد لدينا إحساس بكيفية عمل المبنى من الداخل بشكل اعمق، فما هو خاص بمجموعة من الناس يعيشون أو يعملون داخل المبنى ينتقل بشكل مباشر إلى علاقة المباني بمن يشاهدونه من الخارج وربما لم تتح لهم الفرصة للدخول إليه في يوم، إلى من يمرون به بسرعة لمرة واحدة في حياتهم. هذه الدوائر التي تكبر هي جزء من الثقافة المجتمعية المرتبطة بتصميم الفضاء المفتوح، وتصميم الطبيعة ككل التي يجب أن تمثل كل هذه الروابط المركبة داخل المدينة. ربما تكون الاشكالية التي تواجهنا في هذه العلاقات المركبة هي كيفية ترابط المناظر والاشكال والفراغات من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل. بالتأكيد لا يمكن أن نوجد تراتبية محددة في الفضاء العمراني الحديث كما كان في السابق حيث كانت تخضع المدينة إلى تراتبية فراغية واضحة تبدأ من وسط المدينة (حيث المسجد والساحة والسوق) وتنتقل في تدرج واضح إلى أطرف المدينة وحتى أسوارها مع بقاء مسارات واضحة لمداخل ومخارج المدينة. هذه التراتبية المحسوبة التي يحتاج لها الانسان لا يمكن تطبيقها إلا على مستوى أجزاء المدينة في وقتنا الراهن. ومع ذلك ورغم مقدرتنا على تجاوز مثل هذه التراتبيات الحضرية إلا أن الحاجة إلى "كشف المدينة" وفضاءاتها الحضرية أصبحت مهمة، فحتى المباني الفردية لا يمكن فهمها والتمتع بها إلا من خلال هذا الكشف الذي ينبذ الانعزال والانغلاق ،ويفتح المدينة على بعضها البعض. عمارة المحتوى في حقيقة الأمر تجعلنا نستمتع بمحتوى العمارة وتدفعنا إلى مزيد من المعرفة لثقافة العمارة لأنها ببساطة تفتح أجزاء المدينة على فضاءاتها المفتوحة. بكل تأكيد نحن بحاجة إلى توازن دائم بين عمارة المحتوى ومحتوى العمارة، نحن بحاجة إلى أن نعيش في مدن مستقرة فراغيا ووظيفيا ومترابطة حضريا واجتماعيا. مدن نستطيع أن نعيش فيها ونستمتع بجمالها وبحركة الناس فيها، نستطيع أن نكتشفها من الداخل ومن الخارج. نستطيع أن نرى مبانيها ونتحدث عنها. نريد مدنا إنسانية تحتوينا نتعلم منها ونقدم لها تجاربنا وأفكارنا. ربما نستطيع أن نحقق هذه الأحلام، إذا ما قدر لنا أن نعيد الاعتبار لعمارة المحتوى التي تعتني بالاجزاء كما تعتني بالكل، لكنها لا تذهب للتفاصيل غير الضرورية لأنها ببساطة تترك هذه التفاصيل للمهتمين بمحتوى العمارة. في اعتقادنا أننا بحاجة إلى هذا التحول النقدي المهم، الذي ينظر للمدينة ككل كما ينظر للمبنى يفكر في المحتوى الحضري وكأنه لوحة "موزاييك" لو اختل جزء منها "خربت" اللوحة وفقدت قيمتها الفنية وخسرت جمالها الطبيعي. عندما نفكر بهذه الطريقة ونطور ثقافة نقدية عمرانية بهذا المستوى نعتقد أنه سيكون بإمكاننا إصلاح ثقافتنا الحضرية في المستقبل.