يمر الصديق الأثير فهد ردة بظرف صحي حرج أوجعنا، ورغم البعد هو بالجوار فهذه الفترة الحرجة هي أكثر فترة عدت فيها لتأمل وقراءة نصوصه وتتبع جميع لقاءاته في اليوتيوب والبودكاست وأثير الإذاعات بصدق فريد، ربما هو تأثير فقدان حضوره الذي اعتاده الأصدقاء كل صباح، ونحن نصافح حرفه المبتلِّ بطعم الصباح المتموسق بصوت النغري الذي ألهمه طويلاً.. الغياب المفاجئ أشعرنا بفداحة الفقد وعشنا حقيقة أن كل الصباحات يا فهد في غيابك انتظار..! حتى فضاء تويتر يشرب بقايا ظلك الممتد في عالم الوجع، وتيقنا أن مثلك يحمينا من الأمطار ومن مواسم الجفاف. تحذير : من السذاجة تحويل فهد ردة لأسطورة مسرحية، حتى وإن كان هو المتماهي مع الأسطورة اللغوية، والتجربة المسرحية المحفوفة بالمخاطر والتراكم المعرفي والتاريخي في معظم ماكتب. يجب أن نستحضره بوصفه نحات اللغة والتجربة والرؤية، والكاتب المسرحي الأكثر قدرة على تمثل التجربة المسرحية الحديثة إيقاعا وشكلا ورؤية. تكمن خطورة تحويل فهد ردة الحارثي لأسطورة في عدم فهم تحولات فهد المسرحية والجمالية بل والفلسفية، بعيدا عن اختزاله في صورة كاتب مسرحي نال الجوائز حيث يأتي فهد ردة المفتوح على كل احتمالات الحياة والفن والواقع والجمال! وهو اليوم الكاتب المسرحي الأكثر شعرية وغنائية من الواقع، وربما أكثر اتكاءً على ضرورة المسرح في زمن انكساراته كفن! وهو الأكثر حضوراً في فعل التجربة المسرحية بفعل (عصفٍ) مستمر مارسه في مختبر المسرح مدفوعاً ب"حالة قلق" جميلة صنعت حالة "تشابك" منتجة قادرة على تأجيل "نقطة آخر السطر" اعتراف: معظمنا كجيل مصاب بفهد وأطيافه التي تسكننا وتعيد لنا سرد الحكاية، لأنه جعل المسرح لعبة أنيقة تغرينا وتغوينا. وكلنا أتكأنا على معجم فهد المسرحي واللغوي والفلسفي لا لنصنم المسرح في صورته، بل لنحترم المسرح والرؤية المسرحية والإنسانية في صورة ما أنتجه فهد على طريقة الموسيقي العبقري؛ حيث ثمة نوتات متنافرة كثيرة، يعيد الموسيقار والمؤلف الموسيقي موسقتها بمشاغبات لا تهدأ ليخرج لنا في صورة نغم موسيقي يحاكي هذا التنافر الداخلي، لكنه متناسق ومعمق ومتناقض في الوقت ذاته - وهكذا كان فهد - يعيد كتابة الحياة والواقع والناس والحكايات والمواقف تاريخيا وجماليا في صورة مسرحية زاهية، لأن الكتابة والمسرح لدى فهد ردة فعل اشتهاء بلاغي ونزعة فلسفية أصيلة متناقضة تعيد للذات مكانها المتخيل في عالم مضطرب، وتعيد للغة المسرح هيبتها، وليصنع زمناً جعل من الثقافة السعودية حاضرة على منصات التتويج في كل مكان، فكان بهذا فعل وجود محلي داخل النص وخارجه. بل تكمن مفارقة المسرح في قدرته كفنان ومسرحي على الانطلاق من "سفر الهوامش" ومن "الجثة صفر" إلى بائع ورد يساءل وروده بحب "يا ورد من يشتريك"؟ وبهذا نجح في تحويل المحلي لسردية عربية، أما مجمل منجزه المسرحي الأنيق فأتى كحوار مفتوح على الواقعي والأسطوري والمتخيل، والكتابة لمختبر جمالي للغة المسرحية. شيء من الإنصاف: صحيح أن فهد ردة الحارثي صعد بالمسرح السعودي إلى مكانة مرموقة رغم التوتر والقلق في لغته، لأنه لم يجر خلف الحداثة المسرحية التي كان مفتوناً بها، ففي معماره المسرحي لا يوجد عمل لا يظهر فيه تحولاً أو يتبنى شكلاً كتابياً حديثاً أو تسجيل انعطافة مسرحية على شكل النص؛ لكنه لم ينس الآبار القديمة التي ينهل منها المسرحي رؤيته، وأرى أن مجمل ماقدمه لنا مازال يفتقر لقراءة توازي عمق التجربة وأثرها الذي "يُرى ولن يزول". تلويحة أمل وحب: الأمنيات بأن تغادر وجعك وكرسي المرض وأجهزة التنفس ونؤمل أن ينجح الأطباء في تطويق هذا الداء وأن لا يكون علاجه "بعيداً عن السيطرة " الطبية، نؤمن أنك مقاتل شرس وستعود لنا بتجربة ما بعد المرض حيث هي حتماً لن تشبه ما سبقها؛ فالجسد الجديد يعني حياة جديدة، ونحن هنا لن نغادر المحطة بعد وفي انتظار عودتك لتحكي لنا "تفاصيل الغياب". فهد ردة الحارثي فهد ردة خلال إحدى الندوات المسرحية