إنها رعشة الدهشة الأولى حين نستشعر وجودها دون أن نلمسها، ندرك حضورها بين السطور تتكشف تدريجيًا بين الأحداث والحبكة، تراوغ صاحبها فلا يدركها بوعيه فهي متجذرة في ذاته العميقة، هي المعنى الأوسع والأشمل الذي لا يوجد بمعزل عن فعل التأويل ولا يمكن الإمساك به إلا من خلال القراءة والتفاعل مع النص، إنها (الثيمة) تلك المظلة التي تندرج تحتها مئات الموضوعات والمعاني العميقة، ولكن هنا فيما ساكتبه كانت فريدة الحضور متأصلة في جدار الزمان والمكان لارتباطها بذاكرة الماء، فلم تكن مجرد حكاية خرافية أو أسطورة تقليدية في عمل أدبي، بل كانت السحر الخامل في داخلنا، والمقصد الذي يتشكل مع الإبحار في النص. استطاع الشاعر العبقري أحمد بخيت المولود في محافظة أسيوط بصعيد مصر عام 1966 أن يُسكننا لحظة التوتر العاطفي ويشحذ في وعينا المعاني الخصبة والدلالات والإيحاءات من خلال إذكاء الغربة والتجديد لكلمة (الماء) في قصائده بعبقريته المعهودة وصدق إحساسه، وكأن الحياة امتدت من خلال ذاكرة الماء لتكوين فضاء نصي نابض بالحركة والحياة. يقول: أفي مقدور هذا الماء .. ألا أن يكون هذا الماء إذا امتلاء الزمان بنا .. تلاشت فتنة الأسماء ما هذا السر الذي لا يتلاشى؟ بل هو أعمق سر وجودي في الإنسان، إنه استفهام متدفق غائر في فسيولوجية الحب والتحدي تتراصف في حضوره الذاكرة والتاريخ، ويغيب العبور، ويبقى الثابت خالدًا. فلن يكون الماء غير نفسه فهو المطر في هطوله والنهر في جريانه والبحر في عمقه. وهل اكتفى بذلك بل ها هو يستدعي السيّاب لينجده من الظمأ قائلًا: أكلما ظمئ السيّاب قلت له .. خذني لدجلة ما في النيل مُرتشفّ. ليصبح المكان في ذاكرة الماء مفردة تاريخية يعبر من خلالها للموت والغياب والحزن وانتفاضة للعروبة - يقول الماءَ وهو الماءُ ريَّ غليلنا -. إن الذات الإنسانية تكشف أوراقها وخباياها من خلال عنصر المشاركة والمماثلة مع الأشياء المحيطة بها، فتحول الوهم الى حقيقة وتنفرد بقدرتها على الحضور في إطار الجسد، بل الامتزاج التام مع الحياة، فما كان من الشاعر أحمد بخيت إلا أن قام بتجسيد المجردات إلى ملموسات وإخضاع العلاقات الإنسانية في قصائده : فقلت أعلم الفخار ... شيئًا من ذكاء الماء. ويأخذنا معه بقوله: بغير الماء يا ليلى تشيخ طفولة الإبريق / بغير خطاك أنت معي يموت جمال ألف طريق. فكان الماء مرادفًا للوصال فامتزج المعنوي بالحسي في شعرية جميلة، فأبى قلب الشاعر أن يكون فارغًا من الحب. إن ثيمة الماء عند شاعرنا استمدت قوتها من واقعه المعاصر وأحلامه العربية العالقة في الانتظار، فكانت ذاكرة الماء حاضرة حية لا تغيب ولا تنسى ما مر بها، فهي خطواته التي تعيده إلى مسيرته الأولى وتاريخه فلتحفظ ما شاءت فخلودها أزلي. إن تكرار كلمة (الماء) في قصائد أحمد بخيت يحدث نغماً موسيقيًا داخليًا خاصًا، يشيع في ذهن القارئ تأملا وانجذابا قويًا يرتبط في تأكيد المعنى الشعوري، والغاية الدلالية في صور متعددة، ففي كل مرة كان لتكرار كلمة الماء صور لا تتحقق بمعناها المجرد بل تتعدى إلى أبعد من ذلك من خلال براعة الشاعر في استخدام الصور الشعرية (مشى حُزنُ إلى حُزنِ / وماءُ في اتجاه الماءْ). ومعنى آخر يحمله في قوله : (لو رشفة الماء بعض المن كدَّرها / ماتوا عطاشى على الرمَّضا وما رشفوا) فتغمرنا صوفية الشاعر في لغته الشعرية، وكان الماء رفيق روحه الذي ينقل دلالته الصريحة إلى نسيج يتماهى مع عواطفه بين العزلة والوفاء واليقين والتجرد من المادة، فسلاح الصوفي الخفي هو الشك الباعث على اليقين، إنها تركيبة أحمد بخيت الفريدة في فلسفة الموجودات ونزعة العشق الإلهي. أثبت العلماء في دراساتهم العلمية المتقدمة أن أقوى التأثيرات على الماء يصدر عن المشاعر البشرية فلها تأثيرات على الطاقة الخاصة بالماء فسبحان الله - جل في علاه -، فهل ذاكرة الماء أبدية؟ فهناك بعض الأحداث التي لا تستطيع الذاكرة محوها بين دهاليز رمادها، وقد لا ينجو صاحبها من عواصف شتائها القارس، ولها قدرة عجيبة حيث تسجنك في مجريات الأحداث وتكرارها، فتستمد جرأة الثرثرة في محضر الألم.