في طبعة جديدة منقّحة، صدرت اخيراً عن منشورات "فاتا مورغانا" الفرنسية الترجمة التي كان صلاح ستيتية وكاظم جهاد قاما بها قبل سنوات لقصائد بدر شاكر السيّاب التي تستوحي قرية جيكور. وكانت، الترجمة صدرت في طبعة اولى عن منشورات "لوكاليغراف" ونفدت قبل سنوات. وتتصدر هذه الترجمة مقدمة طويلة لصلاح ستيتية. يرى ستيتية في السياب احد اكبر فناني اللغة، اللغة العربية التي يعرفها صاحب المقدمة في كونها لغة عريقة، اي قادرة اكثر من سواها على ترجمة العريق، وهو بالمعنى الحرفي ما تعيا الذاكرة عن الاحاطة به او تطويقه. ذاكرة تذهب ابعد من الذاكرة. والسياب في نظر الكاتب صائغ لذاكرة ولما قبل ذاكرة، مثلما هو شاعر للشعر ولما قبل الشعر. شاعر ما يسبق تحوّل اللغة الى تقنية والشعر الى صنعة، هناك حيث تقبع طينة الاصول وشطوط بركة بدء الخليقة. الفرات ونجوم سمائه المتآخية، والقمر الذي يظل في العربية، كما في بقية اللغات السامية، محتفظاً بشحنته الذكورية، خلافاً للشمس. هناك دائماً، ضمن محيط الشاعر نفسه ومناخه الأليف، العناصر البدائية، من الريح التي تلهو بمعابثة نخيل الواحة والغيمة التي تعطي ماءها او تمنعه. النهر في مده وجزره، والارض الطاعمة والمخضرّة، والتي تلفحها الصاعقة وبقية الانواء. وهناك الشاعر ولغته ليشهدا على ان كل شيء كان هنا اصلياً. فالأصالة، اصالة السياب قبل سواه، تذهب دائماً في اتجاه التأصل، الانغراس في ارض وملحقاتها المتخيلة والفعلية، بينما يفهم آخرون الاصالة بمعنى التفرد. كل ما يعني السياب يدور ههنا على الارض، محايثة لا غبار عليها ومجردة من كل علو ميتافيزيقي، مهما كان من حضور الميثولوجيا في اشعاره. واذا ما كان لمخلوقات الما وراء حضورها في شعره، فدائماً عبر السخرية المريرة التي بها يستنطق غيابها وانعدام الحساسية لديها. وهو يجد الرمز لهذا كله في بابل، المدينة الساهرة والمنفلتة من عقالها وراء اللذات، وفي هذا الهوس الذي يدفع الاحياء الى غزو مجال الاموات قصيدة "أم البروم". يذكر ستيتية انه تهيأ له المرور في احدى رحلاته قريباً من جيكور، في ادنى بلاد ما بين النهرين، باحثاً، في التماع ارض حمراء سرعان ما يصيبها النشاف ما ان يندر الماء، عن فرصة لالتقاء خيال السياب، او ظله الحيّ. ولقد قابله، وكان ذلك بالنسبة اليه كمثل ملاقاة الملاك العالق جناحه بالسعف. الملاك، الذي هو جار الشاعر وهاديه، والذي شهد، على امتداد اراضي آشور وسومر هذه، تحولات عدة، من ثور مجنّح الى جنيّ مجنّح هو ايضاً. وثمة هنا ما يشبه رؤية صوفية للوجود، دفعت السياب اولاً في اتجاه تموز، ثم ناحية المسيح الذي ألقى هو عليه النظرة الاكثر حباً التي حدث ان ألقاها عليه شاعر مسلم. الى جانب رموز المأساة والتضحية هذه، والى جانب الرق المصفد الى الارض الجائعة، جائعة تحت سماء تبدو حبلى بالبروق اكثر مما بالأمطار، ينهض، ضمن جغرافية السياب الشعرية والخيالية والاسطورية، وجه السندباد البحري الذي غناه هو ايضاً. السندباد الماكر الذي سيكتشف اثمن الكنوز مقيماً بين جنبات صدره: نهاية الاسفار واختتام كل رحلة. ويتساءل الكاتب ان كان هناك عناصر اخرى لمواجهة المحل الشاسع وتعب الرجال والنساء وانقشاع اوهامهم المستمر. فيجد الطفولة، هذه الثيمة السيابية بامتياز. الطفولة وفراشاتها الألقة المنتشرة بالملايين. وامام المدينة المهددة والمحفوفة بالتهديد، هنا جيكور، هذه القرية التي باتت، ببراعة السياب ووفاء نشيده العميق، تمثّل احدى النقاط المحورية في العالم كله. قرية تقبع الى جوار ارض الاصول، اصول النوع البشري، شمعة مكتنفة بالظلام مثلما الكلام هو شمعة بالظلام مكتنفة. في جوار الطوفان وارضه الغرقى بالوحول يقيم الاصل. وفي هذا كله كناية بالغة الدلالة عن الولادة الشعرية. هكذا يمثّل الزمن والفضاء الأقنومين الاساسيين للتجربة السيّابية في نظر ستيتية. زمن وفضاء قرأهما الشاعر وأعاد قراءتهما من جميع وجهات النظر، الاسطورية والتاريخية، الرومنسية والغنائية والواقعية والمأسوية. يعبّر هذا الشعر عن عراق أزلي، وان الصفة لفترض نفسها بحق. عراق مزدهر تارة وعقيم طوراً، وعنه يتحدث السياب في ما وراء او ابعد من التقاويم العابرة لرجال هم اكثر عبوراً. ابعد من الكتابات التي يدونون على رقُم الطين او اعمدة المعابد. كتابات منذورة للامحاء بفعل التأثير المتضافر للشمس والمطر، ما لم يأتِ الشاعر ليقبض عليها في "فخاخ" ديمومة يبتكرها هو ابتكاراً. ان ما يمسك به الشاعر عبر كتابته هو حقاً ضرب من الابدية، على انها ابدية سلبية، مصنوعة لا من اكتمال الزمن اكتمال الثمر الناضج بمقدار ما من كونه معلقاً على الدوام بهذه الصورة التي لا ثمر فيها. ان اتصال الماضي بالحاضر، عبر استمرارية حضور المأساة في المعيش العراقي، يمنح هذا الشعر طبيعة لافتة. ثمة نوع من الثبات يدمغ معيش بلاد الرافدين، فكأنها، عبر تعاقب الازمنة وحركة الاشياء والذوات، لا تسير في اي اتجاه، بل كأنها مدموغة بسكون نهائي. زمن - ديكور، يقول ستيتية، زمن - جمود، وزمن - قناع. وهذا كله يأتي السياب ليشهد عليه وليسميه بصوته القدير. ربما لم يقرأ السياب كثيراً، يقول الكاتب، وهو الذي ما كان ليحسن القراءة في لغة اجنبية غير الانكليزية، وبصورة ربما كانت محدودة. ولم يسافر السياب الا في ايام مرضه، باحثاً عن علاج لدائه، من بلد الى آخر، انه لم يعش. بل لقد "انسحب" بتكتم في السابعة والثلاثين، هذه السن التي عندها يبدأ الآخرون العيش والانتاج فعلاً. سوى انه كان ذلك الصوت الذي لا يُحاكى، وان صوته هذا ليتصاعد الينا انطلاقاً من كامل العمق العريق لنوعنا البشري. ذاكرة مما قبل الذاكرة، فن مما قبل الفن، ولغة مما قبل اللغة. يتذكر الكاتب رامبو الذي جعل من نفسه صائغ "عبارات" اراد لها ان تكون قاطعة كالسكين وشاء ان يقطع عبرها العالم كله دفعة واحدة. على شاكلته، وبطريقته الخاصة ومبادرته الشخصية، قام السياب بعمل تقويض عنيد في خدمة قليل من الواقع يمكن انقاذه من تحت الانقاض. ويرى ستيتية فيه احد الشعراء القلائل الذين يحققون ألفة فطرية مع الكوني، هذا الكوني الذي يعبّر عن نفسه في كل مرة يستولي فيها "عابر هائل" الكلمة لمالارميه معرفاً رامبو على كلماتنا مجازفاً بها ما شاءت له المجازفة. شاعر يذكر بهولدرلين وريلكه، اذ يسمي ببالغ الحياء اشياء الارض المتواضعة والعادية: الجرة التي تنضح الماء والمحار الذي يردد صخب العالم، والرمل الذي هو امانة في ايدينا والحديد الذي يصنع ليل الاسلحة والماء الذي به "يصنع" الغرقى انفسهم. ولعل السياب اكثر ارتباطاً من الكثير من شعراء الحداثة العالمية، سيفيريس مثلاً، بالطينة الاصلية، وذلك بهذه اللغة المرهفة والحادة في آن واحد، التي تتمحور حول بضع صور اساسية عبّرت خير تعبير عن مراثينا الاكثر الحاحاً. ويتوقف الكاتب عند اللغة العربية التي يحسب البعض، مخطئين، انها تحجرت في بعض بناها السلفية وعتيق صياغاتها. على العكس تماماً من ذلك، ترى اليها تعرضت لدى بدر الى نوع من "الكسر" الضروري للعديد من ادائياتها الطقوسية المكرسة لتهبنا هذه اللغة الشعرية التي هي مزيج من الألفة العفوية والمسافة المحسوبة. الكلمة - المفتاح في هذا الشعر هي اخيراً، في نظر كاتب المقدمة، كلمة "الحنين". الحنين الى جيكور، هذه القرية التي تحلم جميع مدننا بالالتحاق ببساطتها الاصلية، والتي تُقيم عند تنافذ السموات والنهرين، الصحراء والواحة الروحانية، السعف والكلام، المنزل الذي لم يعد مسكوناً والنار السوداء تماماً لرغبة هي لنا بمثابة منزلنا الجوال. جيكور هذه، التي تظل السماء فيها دائمة الزرقة على اساس من حُمرة الارض والعالم، هي منذ الآن فصاعداً العلامة الاساسية لحنيننا الاساسي. "كذلك هي"، كتب اخيراً صاحب المقدمة، "هذه القرية الجسيمة التي بالكاد لمحتها، في جوار هذه الفضاءات التي لم افلح الا في عبورها عبوراً...".