تحفة فنية، تم نحتها وتركيبها واقتطاعها من جدران البيوت الطينية القديمة في حواري الرياض الشعبية، كُتبت بلغة موسيقية، كما يؤكد المؤرخ اليوناني سترابون؛ «على أن الكلام والغناء كانا الشيء نفسه في الأزمنة القديمة، ولمّا لم يكن في البدء من موسيقى إلا النغم، ولا من النغم غير ما يحدثه الكلام من تنوع الصوت، كانت الموسيقى واللغة مرتبطتين بشكل وثيق»، الأحداث التي ترويها الرواية تعكس بصدق تراجيديا الإنسان الذي يعيش في مواجهة الواقع بشموسة الحارة، وتحديات المستقبل والحداثة على حد سواء. يظل الإنسان بين اليقظة والغفوة، تصحو فيه غريزة البقاء، وحب السكون من جهة، وروح المغامرة والتمرد على المجتمع وتقاليده من جهةٍ أخرى. قدم الكاتب أحمد السماري في روايته شخصيات من الهامش، من عامة الناس، وتفاعل معها، ونقل معاناتها ومتاعبها، فجاء نصه أقرب إلى الحنين والدراما، عالج مواضيع حساسة كالتطرف الديني، والتفاوت الطبقي وغيرها، بأصوات خمس شخوص متشابكة (الفنان وحيد - واللاعب عبدالله - والطقاقه سارة - والجارة أم سليّم - والعسكري مناحي)، تجمع ما بين الفن والحب، والرياضة، والعنصرية والتهميش، يقطنون معًا في حارة شعبية وسط الرياض، تلك الأماكن التي تُبرز سمات ذلك الزمان وأهله. يصفها الروائي محمد الطيب بأنها؛ «تغوص في حياة المنسيين الذين تعبرهم العيون دون أن تراهم، فيُخرج إلينا السماري ضجيج دواخلهم الصاخبة، وأحلامهم الموؤدة وأناتهم المكتومة، وتقاربهم الصادق وتلاحمهم القوي وأزقة حارتهم الدافئة، «قنطرة» تعبر بنا بين عالمين متجاورين متباعدين». المكان يلعب دوراً أساسيًا في حكايات «قنطرة»، فهو يشير إلى التغيير الملحوظ في حال البلد والناس جراء انتشار المدنية خلال تلك السنوات الفارطة، فتحولت أحوال تلك الحارات الشعبية، بعد أن عصفت بها تغيرات اجتماعية واقتصادية خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، فانقلبت أوضاعها، «ولم يبق من ألوان منازلها إلا ظلالها، كما لو أن أمواج جفاف ضربتها وأكلت حوافها الحادة فباتت متعرجة مشوهة، وأمست هيكلًا بلا روح، كأن الزمان سرق روحها كما سرق عبق فنها وإبداعها، فتحولت معها حياة المبدع من ذات مغزى إلى حياة هامشية». يُسلط السماري الضوء بمهارته الخاصة، عن تفاصيل دقيقة، أبدع في حبكتها، في عالم مختلف وممتد في الزمان والجغرافيا، عزف بريشته بين المكان والإنسان، بدءاً من القرية مرورًا بالحارة والغربة وينتهي في السجن، يتنقل بين أربع كوبليهات من الشخوص الطبيعية، ينبش في تفاصيل شخصياتها المتفردة التي يحمل كل واحدٍ منهم حكاية ونغم ومأساة وتفاصيل ثريةّ خاصة به، وتجتمع خيوط كل هؤلاء لتغزل لنا بساط الحارة الذي «ذهب مع الريح»، وتظهر لنا الموسيقى التي تعد شكلًا حديثًا من الأصوات والإيماءات التواصلية والتعبيرية والتي أراد الكاتب أن يجعلها لغة جديدة بين أبطاله باستخدام التراكيب الموسيقية والتي تشترك مع التراكيب اللغوية، لإيصال الغايات الادراكية كالحب والوفاء والفرح والحنين والمعاناة، وحتى الموت والحزن والخيانة. كُتب في مدخل الرواية «سُئِلَ محمود درويش عن الرثاء فقال: هو مديح تأخر عن موعده حياة كاملة»، وكأن السماري قصد شخصية فنية بعينها وقع عليها ظلم وجور، وتوفيت في صمت وتجاهل من المجتمع، فحان وقت رثائها، ورد اعتبارها بهذا السرد الفخم، وكرمز عن ذلك التغير الجوهري الذي حدث في الحالة الذهنية الجمعية عند الاستماع إلى الموسيقى والطرب، بعد مرحلة سماها «زمان الصمت» وربما يجد فيها كل فنان ومبدع ووحيد من أهل تلك الحقبة بعض العزاء والسكِينة التي لم تقدم لهم في حينه. رغب السماري أن يُنهيها كما ينهي وحيد (الشخصية الرئيسة، الذي أحب الطرب والموسيقى) لأحدى أغانيه الشعبية والتي لازالت وستبقى محفورة في ذاكرة الفن السعودي، كالذهب لا يصدأ محتفظة بقيمتها عبر العصور؛(خلاص من حبكم يا زين عزلنا)، و(يكفيني اللي حصل ما ستحمل زيادة)، وبكل ذلك الحنين الجارف، والألم المُركب، من عذابات السجن والوحدة والمرض؛» أبشع ما قد يحدث للإنسان أن تضمر لغته، أن يشهد تفلت المفردات من رأسه، وعجزه عن الإتيان بالصياغة المناسبة أو الاسم الصحيح، الأمر يشبه انهيار قصرك أمام عينيك بكل جماله وتفاصيله، لا تملك الإمساك به أو إنقاذه». صدرت رواية «قنطرة» عن دار تنوين للنشر والتوزيع بالمشاركة مع دار أثر للنشر والتوزيع، وهي الرواية الثانية التي يقدمها الكاتب أحمد السماري بعد رائعته الأولى «الصريم»، وفي تقديري بإن الرواية ستصل بحكايتها وشخصيتها، وبكل جدارة لأبعد مدى ممكن، وستنال إحدى الجوائز العربية الكبرى.