تشجّع الرؤية المباركة، رؤية 2030 اعتزاز السعوديين بهويتهم الوطنية وتراثهم الثقافي، وقد نصّت على أن الثقافة مقوّمة من مقوّمات جودة الحياة، والمقصود هنا ليس ثقافة الروايات والأفلام والمسرح والفنون التشكيلية فحسب، بل المقصود هو تلك الثقافة القيمية التي توارثتها وحافظت عليها الأجيال بعد الأجيال منذ فجر تاريخ هذه البلاد حتى هذه الساعة. وأكتب الآن من وحي هذه الفكرة عفو الخاطر، وقد اخترت الحديث في مسائل الاشتقاقات المعنوية واللفظية الكبرى، واخترت معنى الوفاء، ليس اعتباطاً، بل لأهمية استحضار الوفاء بين الفينة والفينة، وهو القيمة التي ينبني عليها الولاء والفداء والحب لهذا الوطن الحبيب بأرضه وقيادته وشعبه الكريم. تأمّلتُ في الوفاء وفي النصح، فرأيته يفوق النصح؛ لأنّ النصح لا يصحّ إلا في باب الرفق، والوفاء يصحّ على أيّ وجه. ونظرتُ في الوفاء وفي الإحسان، فوجدتُه يشتمل على الإحسان ويتجاوزه، لأنّ من أبواب الإحسان ما هو على التخيير، بيدَ أنّ الوفاء إلزاميّ في كل شؤونه. واستغرقتني المقارنات والمقايسات، فما ازددتُ إلا يقينا على يقين؛ فلمّا تيقّنتُ من أنّ الوفاء معنى شامل يفوق في المقارنة ويدخل في كلّ أشكال الأخلاق والعبادات والمعاملات، أردتُ أن أعدّ بعض الصفات التي يشترطها الوفاء في الإنسان الوفيّ، ففي الوفاء معنى إباء الضيم، وفيه معنى الصدق، والصبر، والحفاظ، والدفاع، والفداء، والاعتزاز. وإذا بالوفاء للقصيّ البعيد يبدو في عيني أشرف من الوفاء للقريب الحبيب، وكلاهما شريف، لكنّ الوفاء للحبيب محبوب مرغوب، بخاصّة أنه قد يكون من مسلّمات الواجبات المفروضة بأصل التشريع، وقد لا يحمل على النفس مؤونة غير أيسر الحفاظ، لأن الميل إليه يجعله يسيراً هيّنا، بيدَ أنّ الوفاء للقصيّ على شيء من المشقّة، وقد لا يكون من أصل التشريع، بل هو عروةٌ أوثق فيها الحُرّ نفسه بكلمة نطق بها، أو لعادةٍ معروفة عنه، وهكذا. وإذا بالوفاء في الاستعمال التعبيريّ لفظة ترتبط بأفعال دلالتُها الالتزام والحذر والتشديد، مشتقة من الميثاق والعهد والعقد، فيُقال: أوثقَ وأبرمَ وربطَ وتعهِّد وعقَد ونذرَ وأجارَ؛ وإذا بإضاعة الوفاء مرتبطة بأقسى الأفعال وقعاً في عالم الحس، فنجدها مشتقة من النكث والنقض والخيانة، فيُقال نكثَ ونقض وخانَ. وهذه الأفعال جميعاً رُبطت استخداماتها بالأيْمانِ وعقود الصّلحِ والثبات على الهدايةِ، فكانَ اشتراك القسم واليمين والوفاء فيها علامة على علوّ شأنَ المشترِكات: (ولا تنقضوا الأيمان بعد توثيقها)، (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا). ويأتي فعل الوفاء اللازم من التمام، فاقترن في أكثر أحواله بفاعلٍ من الوعد والعهد واليمين والنذر، واقترن فعله المتعدي بإبلاغ المرسلين رسالاتهم، وبإيفاء الناذرين نذورهم، وبمجازاة المحسنين بإحسانهم، وبإيصال الحقوق إلى مستحقّيها: (يوفون بالنذر)، (وإبراهيم الذي وفّى)، (ليوفيهم أجورهم). ويقال: وفى فلان بحقّ فلان، ووفّاه حقّه، أي أوصله إليه تامّا غير منقوص. واقترنَ وصف الوفاء بالكريم، فيقالُ: وَفَى الكريم ووفّى؛ فترى عندئذٍ أنّ الكلمتين كانت إحداهما بطناً والأخرى ظَهراً، لأنّ امتناع إحداهما امتناع للأخرى، ووجود نقيض إحداهما امتناع لقرينتها، فكأنهما الظهر والبطن من جسد الإنسان، وأنى للكائن ببطن ولا ظهرَ؟ وهيهات له بظهر ولا بطنَ! والوفاء نفيس، ولذلكَ لا يُنتقصُ نزره وخفيفه، لأن النفيس لا تعيبه خفّته وسهولة تحمّله، فالوفاء بالموعد السهل شريفٌ كشرف ما صعُب وعَزَب، ولكنّ الشرف درجات ومراتب، والشيح والريحانُ والمسك أطياب كلّها، ولكنّ الله جعل لكل شيء قدراً. واقترن وصف الوفاء بالقلّة، وذلك دليل على نفاسته، فيقال: عزّ الوفاء، وقلّ، وجلّ. ومن عجائب البيان العربيّ أنّ كلّ ما تكلّفتُ التفكير فيه، واستدعيتُ ملَكة التأمل لأجله، موفورٌ حاصل، بحكم الضرورة، وحكم الطبيعة، وحكم البساطة، في قول السموأل بن عادياء: «تعيّرنا أنا قليل عديدُنا/ فقلتُ لها إن الكرام قليلُ. وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارنا/ عزيزٌ وجار الأكثرين ذليلُ». فهذا هذا، غير أن ذلك بتكلف وتعطّف، وهذا بسجيّة ليس فيها ولا معها تلطّف. إلى هنا، وقد وصلنا إلى السموألِ، ولا نتجاوزُه إلا بإيفاء شيء من حقّه، وكفى شأنه رفعة أنّ ذكره شاع وذاع، وما ذلك إلا لأنّ الوفيّ محمود فعلُه مهما كانت نسبته أو ملّته، فلولا ذلكَ لما ضرب السموأل مثلاً يحتذى ويشار إليه بالبنان. وقد مدح حسّان بن ثابت مطعم بن عديّ لوفائه للنبي صلى الله عليه وسلم وضعفاء المسلمين بما وعدهم به من جوار. فقال يرثيه، وخباء الإسلام مضروب، وهو بين ظهراني المؤمنين: «أَعَينِ أَلا اِبكي سَيِّدَ الناسِ وَاِسفَحي/ بِدَمعٍ فَإِن أَنزَفتِهِ فَاِسكُبي الدِما. وَبَكّي عَظيمَ المَشعَرَينِ وَرَبَّها/ عَلى الناسِ مَعروفٌ لَهُ ما تَكَلَّما. أَجَرتَ رَسولَ اللَهِ مِنهُم فَأَصبَحوا/ عِبادَكَ ما لَبّى مُلَبٍّ وَأَحرَما. فَلَو سُئِلَت عَنهُ مَعَدٌّ بِأَسرِها/ وَقَحطانُ أَو باقي بَقِيَّةِ جُرهُما. لَقالوا/ هُوَ الموفي بِخُفرَةِ جارِهِ/ وَذِمَّتِهِ يَوماً إِذا ما تَذَمَّما. فَما تَطلُعُ الشَمسُ المُنيرَةُ فَوقَهُمْ/ عَلى مِثلِهِ مِنهُم أَعَزَّ وَأَكرَما».