دائماً ما تربط العزلة بالسلبية، فهي بالنظرة السوداوية تعد سبباً للمعاناة، والتفكك الاجتماعي والأمراض.. غضت الأبصار للأسف إما عنوةً أو جهلاً عن حقيقتها وما تحويها فعلاً من إيجابيات عظيمة! يتعمد البعض أن ينعزل ليقلل من التواصل مع الناس والعالم الخارجي.. ويصنف البعض تلك الرغبة على أنها غير طبيعية وسلبية ناتجة عن اكتئاب غالباً ولا بد أن يكون صاحب القرار معتلاً أم مختلاً! والحقيقة هي أنه -بالطبع- توجد مساوئ للعزلة لا يمكن إنكارها أبداً، ولكن لها محاسن عديدة أيضاً، فهي كالعالم الذي تغلقه بوابة لا يدرك أهميته وما يحتويه من كنوز إلا قلة، فيتطلب ذلك نظرة بعيدة كل البعد عن السطحية تنظر للعمق الثري والمستقبل الحافل الذي يسبقه الكثير من التفكير والتخطيط والتجريب، فعالم العزلة يقدره ويرغب به فقط أصحاب الوعي العالي والأهداف الاستثنائية. لماذا؟ لأن عملية الإنتاج تتطلب ذهناً صافياً ووقتاً كافياً للبحث والاستطلاع والتخطيط والتجريب للحصول على النتائج المرغوبة، وقد يحصل ذلك بعد سلسلة من الأخطاء والإخفاقات، فلا يمكننا أن نضع حلولاً وبدائل ونحن في وسط فوضى الحياة وتنوع المشتتات خصوصاً في عصرنا الجاري.. فتربط العزلة والفن علاقة قوية منذ القدم بدأت مع البدائيين الذين أثناء عزلتهم في كهوفهم سردوا قصصهم وعبروا عن مشاعرهم فأصبحت شاهداً مهماً يعلمنا عن ماضي الجنس البشري وتطوره على مر الزمان.. واستمرت تلك العزلة فكانت ملاذاً للعلماء والعباقرة والفلاسفة وأخيراً الفنانين! ولا تقتصر العزلة على الفنانين التشكيليين فقط؛ بل تشمل أنواع الفنون الأخرى كالموسيقى والشعر وغيرها.. ولكن تتفق تلك الفنون على أن العزلة تزيد من نسبة التركيز والإبداع الذي يؤدي للتفكير الخارج عن المألوف، وهذا ما يحتاجه كل فنان مبدع، فهو يبحث عنها باستمرار ليخلق أعمالاً ناجحة.. فلولا عزلة فان غوخ وتأمله لما حوله ودراسة العالم الطبيعي ما كان أنتج أعداداً هائلة من الدراسات والأعمال الفنية التي تعرض الآن بأرقى المتاحف والمعارض الفنية وتباع بأسعار فلكية! ولولا أهميتها ما كان بول جوجان الفنان الفرنسي الشهير قد اعتزل باريس الجذابة بتطورها ومغرياتها الساحرة آنذاك بحثاً عن مكانٍ هادئ وخالٍ من الضجيج كجزر التاهيتي، لتهيئ له عزلته المكان والجو المناسب في إنتاج أعماله الفنية الشهيرة.. ولا ننسى الفنانة الألمانية غابرييل مونتر التي كانت تستغل عزلتها وظروفها الصعبة سبباً في تركيزها أكثر على الفن والإنتاجية، فبعد دراستها في المدرسة الفنية النسائية وعدم رضاها عن المستوى التعليمي المختص بالنساء قررت أن تحسن إمكانيتها تارةً من فنانين متخصصين تارة أخرى من عزلة تتخللها الحرية المطلقة للعمل والتجارب.. فالعزلة حالة يحتاج أن يدخل بها الفنان لفترة ليخرج منها بالغنائم الفنية الثمينة. النزهة، امرأة بمظلة، بول جوجان 1887م، المعرض الوطني الأسكتلدني