تعد الصناعة عنوان تقدم الأمم والمدخل الحقيقي لنهضة أي دولة؛ ورحلة الصناعة في مملكتنا انطلقت بعد العام 1932م، عندما استطاع الملك عبدالعزيز -رحمه الله- لمّ شمل القبائل وتوحيد البلاد تحت اسم المملكة العربية السعودية، فكان ذلك اليوم بداية لمشروعات التنمية والتقدم في جميع النواحي لاسيما الصناعة التي يرتكز عليها الاقتصاد؛ كإنتاج البترول وتكريره، والصناعات البتروكيميائية والحربية والغذائية والمعادن والإسمنت ومواد البناء، وغيرها. وبصفتي صناعياً سيكون حديثي عن نمو وتطور الصناعة والمدن الصناعية في المملكة منذ التوحيد حتى الآن؛ فمع توالي الاكتشافات البترولية في ثلاثينات القرن العشرين وتأسيس أرامكو عام 1933م بدأ مشوار الصناعة لمملكتنا، وفي العام 1949م تم إنشاء المصانع الحربية، وتأسيس شركة بترومين عام 1962م، وإنشاء أول مدينة صناعية في جدة عام 1971م، ثم تبعتها المدينة الصناعية الأولى في الرياض العام 1973م ثم في الدمام العام نفسه، وشهدت المملكة انطلاق 3 إنشاءات صناعية مهمة هي: صندوق التنمية الصناعية عام 1974م، والهيئة الملكية للجبيل وينبع عام 1975م، وشركة سابك عام 1976م، وفي عام 2001م تم إنشاء هيئة المدن الصناعية التي تدير 36 مدينة صناعية في الوقت الراهن، وبعد إنشاء صندوق التنمية الصناعية تم توسيع القاعدة الصناعية وتطويرها، حيث زاد عدد المصانع من 198 مصنعاً عام 1974م إلى 10685 مصنعاً منتجاً وقيد الإنشاء حتى يوليو 2022م، ومن المدن الصناعية التي تحتاج إلى وقفة مدينتا "أوكساجون" و"سبارك"؛ إذ تعدان نموذجاً مهماً للمدن الصناعية المستدامة، وتقدمان مجموعة متكاملة من الخدمات لدعم نمو الأعمال وجذب الاستثمارات الأجنبية وتوفير فرص العمل، وإمدادات الطاقة بأسعار تنافسية، وخفض تكاليف الخدمات التشغيلية، وسرعة استجابة الصناعات والخدمات المساندة لاحتياجات الشركات التشغيلية والتطويرية، وربطها بشبكة طرق برية متطورة، والاعتماد على الاقتصاد الدائري للكربون. ف"أوكساجون" ستجمع بين أحدث منهجيات الثورة الصناعية الرابعة والاقتصاد الدائري، وسيوفر الميناء المؤتمت بالكامل ربطاً مباشراً بالأسواق العالمية، وستكون مدينة يجتمع فيها الناس للعيش والعمل والترفيه. وأما "سبارك" فقد استقطبت تقنيات حديثة في البناء من المهم مشاهدتها في المملكة كالخرسانة الخضراء التي اُستخدمت للمرة الأولى في الدنمارك عام 1998م، وتكنولوجيا "كون إكس تك"، واستخدمت قضبان البوليمر المقوى بالألياف الزجاجية، والطين السائل بتقنية النانو "LNC"؛ لذا حصلت على شهادة المستوى الفضي "LEED" في ريادة الطاقة والتصميم البيئي، وأول تصنيف ذهبي مستدام بامتياز عن فئة المجتمعات في المملكة. لذا أتمنى أن يتم التركيز بشكل أكبر على مراكز البحث والابتكار لما للعلم والتطور التقني والتكنولوجي من أهمية في نمو الاقتصاد، والعمل على تطوير كوادرنا الوطنية من خلالها ودعمها، ويأتي إنشاء اللجنة العليا للبحث والتطوير تأكيداً على اهتمام القيادة -حفظها الله- بتنمية قطاع البحث والابتكار، وعلى الفكر التجاري والصناعي السليم؛ فمهام هذه اللجنة تحويل مشروعات البحث إلى براءات اختراع صناعية، واحتضان أصحاب الأدمغة المبتكرة من جميع أنحاء العالم، فالدول الكبرى تتنافس في مجال الابتكار لقناعتها التامة بأنه هو المصدر الحقيقي للقيادة والسيادة، وفي هذا المجال نجد أن كوريا الجنوبية تصدرت أفضل عشر دول على مستوى العالم في الابتكارات حسب تقرير مؤسسة "بلومبيرغ الصادر عام 2021م، وأتمنى أن يُمنح القطاع الخاص كل الدعم والمساندة والتشجيع لدخول هذا المجال بشكل أوسع؛ مما سيحقق أهداف رؤية المملكة 2030م في البناء الذاتي والتنمية المستدامة، وأيضاً التوسع في إنشاء طرق سلاسل الإمداد الحيوية، وربطها بسكك حديدية مع مناطق المملكة كافة وحتى الدول المجاورة، وتوفير مصادر طاقة نظيفة وآمنة وبأسعار تنافسية، والعمل على إنشاء تجمعات صناعية متكاملة ومستدامة تشارك فيها جميع الجهات الفاعلة كجهات صنع القرار ورجال الأعمال والمبتكرين والشركات لمواجهة تحديات القطاع الصناعي، والعمل على تطبيق نموذج العناقيد الصناعية؛ فهي أحد المتطلبات المهمة لتطوير وتنمية أي صناعة، حيث إن توافر العنقود الصناعي يعني توافر مستلزمات قيام الصناعة، وتوافر المنافسة المحلية القوية، وتتعاون فيه المؤسسات لتحقيق ربحية أعلى للجميع، ورفع الإنتاجية، وزيادة فرص التخصص وتقسيم العمل، وتقليل نفقات التبادل أثناء المراحل الإنتاجية وانخفاض تكاليف الإنتاج، وبالتالي تحسين فرص التصدير مما ينعكس على الاقتصاد ككل، ومن أبرز الأمثلة على العناقيد الصناعية التي حققت نجاحاً كبيراً على المستوى العالمي تجمع صناعة السيارات في ديترويت بأميركا وشتاوتغارت بألمانيا، وتجمع صناعة الاتصالات في تكنويولس بفنلندا، والحاسبات والبرامج الحديثة في وادي السيليكون بأميركا وبنغالور في الهند، وصناعة الأزياء في ميلانو والسيراميك في بولونيا، وتعد التجربة الإيطالية من أثرى التجارب في العناقيد الصناعية حيث حققت الشركات الصغيرة والمتوسطة نجاحاً خاصاً في تطوير دور الشركات في العملية التصديرية. أخيراً، أسأل الله عز وجل أن يصون وطننا، وأن يحفظ الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، اللذين أطلقا مسيرة النهضة الصناعية لبلادنا؛ فقد كانت رؤية 2030م مصححة للمسار الاقتصادي ومحفزة للنمو والتطور الصناعي لبلادنا.