في خضم هذا التحول إلى اقتصاد المعرفة أدركت المؤسسات أهمية عنصرها البشري، حيث أصبحت هذه الموارد وكيفية تسييرها من أهم مصادر الميزة التنافسية. فالدول الآن وفي ضوء علوم الاقتصاد المعرفي أدركت تماما ما الذي يعنيه العنصر البشري.. مما لا شك فيك أن هناك فجوة كبيرة بين جيلين، أتت أُكلها تلك التطورات الهائلة في التكنولوجيا، والتي شهدتها نهايات القرن العرشين حيث انبثقت منها تطورات في الفهم والمعرفة؛ إلا أن التباطؤ لدينا في استخدام هذه التكنولوجيا آنذاك، قد عمل على هذه الفجوة «الجيلية» في المعرفة وخاصة لدى الجيل الأسبق، بينما قد نجد هذا التقارب في المعرفة بين الأجيال المتلامسة لدى الدول المتقدمة فعال ومتسق. هذا التقارب أسسته تلك التطورات، هو نوع من التراكم المعرفي في الغالب، هذا التراكم المعرفي واكبه وانبثق عنه تطورات في غاية الأهمية، أولهما التراكم الرأسمالي والآخر هو سرعة التقدم العلمي والتكنولوجي. بينما نجد هذا التباطؤ -الذي صاحب انبثاق هذا التطور التكنولوجي لدينا- هو ما خلق هذه الفجوة في التباين بين جيلين قلصت من أن يتبعها ثورة معرفية، ليس على مستوى جيل سبق فحسب، وإنما أيضا الجيل اللاحق، وإن قد بدأ بفضل الله ثم بفضل قادتنا العظام في اللحاق بالركب في العقدين الأخيرين ولكننا نستطيع القول إن الأمر لا يزال في مرحلة المحاولات والسباق الكبير على مضمار الاقتصاد المعرفي الذي قد أصبح أمرا محتوما في نهضة الدول والمؤسسات المعاصرة. إن ما يحدث من محاولات لإصلاح التعليم والنهوض به نحو فضاءات معرفية عالمية يواجه عقبات كبيرة، نتاج ما أشرنا إليه من تفاوت معرفي بين الجيلين وهو الأمر الذي كان يتحتم عليه نهضة معرفية وتكنولوجية لدى الجيل السابق والمتلامس في الوقت نفسه، لكي يتواصل الجيلان في قيادة هذه المعرفة والوصول بها إلى بر الأمان وخاصة في مناهج التعليم وكذلك في شتى مناشط الحياة التي باتت تعتمد كليا على العلم والتكنولوجيا. ولنا أن نسأل عن أثر ذلك في الواقع الاجتماعي والمعرفي والاقتصادي، فلكل من هذه المدارات قيادة شاملة في تنظيم القاعدة العامة ونظمها وفكرها ومعتقداتها وحتى نمط الحياة! إن الشارع العربي الآن يموج بذلك النوع من التذمر والقلق والحوارات والتكهنات والضجيج على الفضاء الإلكتروني -غير المدروس وغير المتأسس وغير الواعي- كل ذلك خلق نوعا من الهياج الفكري غير المنتظم والذي من شأنه تفتيت الدول من الداخل وهو أشد خطورة من الغزوات الحربية، فالدول واقتصادها وقوة تطورها ورسوخ أعمدتها لا يتأتى -بطبيعة الحال- إلا من وحدة الفكر والمعرفة حتى وإن تباينت الآراء فهو تباين مبني على فكر معرفي محترم وبناء، وذلك بخلاف مانراه مما يطلق عليه الفوضى الفكرية التي وصلت إلى المعتقدات وإلى التشكيك في العقيدة وفي التراث وفي مقدرات الشعوب، دون وعي أو ركيزة علمية تستند عليها أو يستند عليها هؤلاء! لم يكن هذا الأمر وهو (التحول نحو اقتصاد المعرفة) غائبا عن دور الموسسات حيث إننا نشهد هذه الهبَّة الكبيرة نحو تطوير العلم والتكنولوجيا وبشكل وثَّاب وكبير، لكن ما يضع العصا في العجلة في وقتنا الحالي ومع هذه الهبَّة اللاهثة -للحاق بالركب- هو عدم تأسيس جيل سابق وملامس لهذا الجيل؛ فلا مناص من أن القاعدة التي تستند عليها هذه الهبَّة هو معرفة جيل (سابق حاضر) وملامس ولايزال نشط، ولكن بحسب معرفته هو وآليات عصره، فهذا التطور العالمي في العلوم والمعارف صاحبه تأسيس لجيل تلامس مع هذا جيله، وهذا هو سر الضفيرة الواحدة في تقدم واقتصاد المعرفة بشكل جيد لدى هذه الدول المتقدمة. وفي الوقت ذاته نجد الحلقة غير مغلقة لدينا ولدى ما تنشده المؤسسات عبر هذه الطفرة المعرفية حتى أصبح الأمر شديد الخطورة وشديد العرقلة في طريق تنمية الموارد البشرية والتي هي الأساس. إنه في خضم هذا التحول إلى اقتصاد المعرفة أدركت المؤسسات أهمية عنصرها البشري، حيث أصبحت هذه الموارد وكيفية تسييرها من أهم مصادر الميزة التنافسية. فالدول الآن وفي ضوء علوم الاقتصاد المعرفي أدركت تماما ما الذي يعنيه العنصر البشري وما هي أهميته ذلك أمر محتوم لا مناص منه في بناء قوة المؤسسة وقوة بنيانها وأساس ثروتها أيضا، لكن المشكلة الكبيرة في هذا الأمر والتي تواجهنا الآن قبل المؤسسات هو التحول من مفهوم المؤسسة التقليدية إلى المؤسسة المعاصرة في إطار اقتصاد المعرفة. في الآونة الأخيرة وخاصة بعد الثورات العربية بدأت استراتيجبة المؤسسات تقوم على التدريب والتأهيل لعلوم التكنولوجيا وتطوير العلوم والتعليم ذلك من غير الممكن والمعقول أن تنهض الدولة أو المؤسسة إلا إذا توافرت فيها القدرة مع الرغبة في إطار منسجم ومتفاعل لتحقيق هذه الاستراتيجيات أو تلك. ولكننا نؤكد أن الأمر لا يتكئ على جيل الشباب الذي يتلامس مع جيل لاتزال المؤسسات كلها تقوم عليه وهو غير متمكن من علوم التكنولوجيا والعلوم الحديثة لأننا أصبحنا جزءا من هذا العالم، ولأن لدينا جيلا كاملا لا يزال عصب كل المؤسسات ويعجز عن ملاحقة التقدم التكنولوجي وحتى اللغة. إن كل ما ذكر سلفا لا يعني بالاقتصاد واستراتيجية المؤسسات تقدما فحسب، وإنما تعدى الأمر إلى هياج فكري وثقافي في الشارع العربي خلخل كل المفاهيم؛ عكسه ذلك التباطؤ المقيت في عقود سابقة في بناء الاقتصاد المعرفي!