السعودية مثال ناجح على إدارة الموارد المائية. فرغم بيئتها الصحراوية ومناخها الجاف وعدم امتلاكها أي أنهار أو بحيرات عذبة، يتمتع سكانها بوفرة مائية لا تجدها في دول ذات مناخ ماطر ومسطحات مائية وعدد سكان أقل ... وأمر كهذا يثير الإعجاب والاستغراب في نفس الوقت لأننا لا نعيش فقط في منطقة صحراوية جافة، بل ويرتفع لدينا عدد السكان بشكل مطرد لم يحدث في أي فترة تاريخية سابقة.. يثير الإعجاب لأنه يحدث في فترة مناخية حساسة تغير فيها المناخ وشحت فيها الأمطار بشكل واضح خلال الخمس عقود الأخيرة - لدرجة يتذكر جيل الآباء الفرق بين أيامهم وأيامنا.. أياماً كانت مدن وقرى كثيرة في السعودية تضم من الآبار والمزارع ما يفوق عدد السكان بكثير. أما اليوم فانقلب الوضع وتضاعف عدد السكان في وقت تموت فيه المزارع وتجف فيه الآبار وتتراجع المناطق الخصبة أمام كتل الإسمنت الضخم... ومع هذا كله ظلت السعودية دولة رائدة في توفير المياه، ليس فقط لسكانها، بل وأيضاً لإنتاج الأغذية الاستراتيجية التي تتطلب كميات مهولة من المياه العذبة... والسبب الأول في هذا النجاح يعود إلى إدراك الدولة المبكر لهشاشة الوضع المائي وخطورة التقاعس أو التأخر في توفير مصادر المياه الصالحة للاستهلاك البشري.. أدركت في وقت مبكر ضرورة استباق الارتفاع السريع في معدل السكان، والارتفاع المطرد في استهلاك المواطن نفسه - الذي يفوق دولاً مثل كندا وفنلندا حيث تغطي المسطحات المائية معظم البلاد. أما السبب الثاني (في نجاحنا المائي) فيعود إلى وضوح الخيارات وتركيزنا منذ البداية على تحلية مياه البحر كتقنية واعدة أثبتت بمرور الزمن مناسبتها لوضعنا الجغرافي والمناخي .. مشكلة واحدة فقط كانت تستعصي دائماً على الحل - ولا يمكن حتى للدولة حلها دون تعاون المواطن .. ألا وهي وعي المواطن نفسه وإدراكه لحدود استهلاكه .. منظم المياه (وهي الجهة التي تباشر ممارسة المهام المتعلقة بتنظيم أنشطة تقديم خدمات المياه والصرف الصحي في السعودية) قامت بحملات توعوية كبيرة وجهود مشكورة لتطوير وحوكمة قطاع المياه .. وما لفت انتباهي مؤخراً هي خدمة تحديد فاتورة المياه بشكل مسبق.. فهذه الخدمة قد تكون أفضل طريقة لاستكمال مثلث الأمن المائي كونها لا تعتمد فقط على وعي وضمير المستهلك (كما هو شأن الحملات السابقة) بل وأيضاً على الاتفاق معه ضمنا على نسبة عادلة من قيمة استهلاكه الشهري .. وخدمة الحد الاستهلاكي تهدف إلى: -- مساعدة المستفيدين على إدارة استهلاكهم الشهري من جهة، والمحافظة على أقصى استفادة من المياه من جهة أخرى. -- يضاف لذلك أن (خدمة الحد الاستهلاكي) تقدم بدون رسوم للمستفيدين، وتوفر قيمة مضافة لأصحاب الفواتير المرتفعة - وأيضاً للمستفيدين الذين يرغبون بمعرفة حدود استهلاكهم الشهري. ... وبوجه عام يمكن القول إن هذه الخدمة لا تساهم فقط في الحد من استهلاك المياه بل وتنبه العميل بشتى الوسائل التقنية على قرب تجاوز الحد الاستهلاكي وإمكانية تعديله في أي وقت (وهو مايفسر لي شخصياً سر الرسائل النصية التي تصل لهاتفي الجوال بتجاوز الحد المعتاد للماء المستهلك في منزلي).. وبحسب معرفتي، خدمة كهذه مستخدمة وموجودة حتى في الدول ذات الوفرة المائية.. وتطبيقها لدينا لا يساعد فقط في ترشيد استهلاكنا للمياه بل ويساعد المواطن ذاته في معرفة خياراته والكشف عن التسربات داخل منزله - وربما عقاراته - وعدم زيادة فاتورته لهذا السبب. بدون هذا الوعي، وبدون هذه الخدمة نخاطر فعلاً باستهلاك رصيدنا القليل أصلاً من المياه العذبة.. صحيح أننا الدولة الأكبر في تحلية المياه (مقارنة بعدد السكان) ولكن الصحيح أيضاً أن المياه الجوفية ماتزال المصدر الأساسي للمياه العذبة في السعودية. وهذا المصدر قابل للنضوب (وغير متجدد في معظمه) ولا يمكن التعويل عليه كثيراً - خصوصاً إن أردنا الإبقاء عليه كخيار استراتيجي للأجيال القادمة... ولهذه الأسباب كلها يمكنني القول إن وعي المواطن، مع خدمة الحد الاستهلاكي العادل، هما مصدرنا الثالث للمياه في السعودية - بجانب المياه الجوفية وتحلية مياه البحر..