الماء شرط بقاء البشر الأول والأهم. وكل العالم من أقصاه إلى أقصاه يسعى إلى وضع ضوابط متنوعة على استهلاكاته، سواء المنزلية منها، أو الزراعية؛ فالإنسان يستطيع أن يتحمل الجوع فترة أعلى من المدة التي يستطيع فيها تحمل العطش. ومن الأخطاء (الجسيمة) تفريطنا في مياهنا الجوفية في المشاريع الزراعية، وبلادنا تعتمد عليها، ويندر تعويضها من الأمطار غير الموسمية والشحيحة، نظراً لطبيعة مناخات المملكة. تحلية المياه التي يظن البعض أنها بديل صناعي لشح المياه، هي حتى الآن مكلفة مالياً، ولا يمكن أن تلبي منفردة، الاستعمال البشري دون خلطها بكميات معينة من المياه الجوفية، لتكون صالحة للاستعمال المنزلي؛ لذلك كله لا حل للسيطرة على استهلاكنا لمياهنا الشحيحة، نسبة إلى تعداد السكان، إلا برفع تكلفة استهلاكه على المواطن والمقيم، ليضطر إلى السيطرة قسراً لترشيد استهلاكه. نعم كانت تعرفة المياه في المملكة طوال العقود الماضية بخسة إلى درجة غير معقولة، وأنا من ضمن من طالبوا في عدد من المقالات إلى حماية ثروتنا المائية (المتناقصة) وغير المعوضة باللجوء إلى رفع التعرفة الاستهلاكية للمياه، بحيث تكون بشكل تصاعدي، كلما زاد الاستهلاك ارتفعت التعرفة أكثر. وفي تقديري أنّ القرار الحكومي برفع التكلفة على مياه المنازل كان عين الصواب ويتناسب مع تدني وتناقص مياهنا الجوفية، وأكبر خطأ استراتيجي تنموي كنا اقترفناه توسعنا في المجالات الزراعية، بحجة (خرافية وتدميرية) تضع ما يسمّى بالأمن الغذائي ذريعة للتفريط بأمننا المائي، فاكتشفنا متأخرين أنّ هذا الزعم الأحمق كلفنا تكاليف خطيرة، من شأنها إذا لم نبادر لتقويمها أن تلقي بنا فرائس للعطش حقيقة وليست مجازاً. بلادنا - يا سادة يا كرام - بلاد جلُّها صحراوية قاحلة، يحفها السراب والظمأ من كل حدب وصوب، ومن الغباء والغفلة أن نصر على تحدي الطبيعة المناخية، ونحولها إلى بلد زراعية ونحن نفتقر إلى الماء الذي لا زراعة إلا بوجوده، وأنا أدعو بقوة ألاّ نكتفي فقط برفع تكلفة المياه بطريقة تصاعدية، تزداد كلما زادت كميات الاستهلاك، فهذا الإجراء - رغم أهميته القصوى - لا يكفي إذا لم نعمد عاجلاً وبجرأة لا تعرف التردد إلى وقف مشاريع إنتاج الألبان نهائياً، لأنّ كلفتها المائية كبيرة وكبيرة جداً، وكانت خطأ استراتيجياً لا يمكن تبريره. أعرف أنها حلول (مؤلمة)، وسوف يتضرر منها فئة من المستثمرين في المجالات الزراعية، غير أنّ هذا القرار الإصلاحي لا بد من اتخاذه مهما كان الثمن، حتى وإن تم تعويض المستثمرين في هذه المجالات، فالتعويض هنا مهما كانت تبعاته المادية على الحكومة، سيكون بكل تأكيد أقل من أن نتمادى في هذه الاستثمارات التي ستضطرنا راغمين إلى اتخاذه يوماً ما, وكل يوم يمضي، ونحن نرجئ مثل هذا القرار، يفاقم معضلتنا المائية أكثر، فلماذا لا نواجه معضلتنا اليوم وليس غداً؟ أما أولئك الذين يتذمرون من ارتفاع تعرفة تكلفة المياه، فأغلبهم - للأسف - لم يتصوروا أن ثمة معضلة، ستتحول إلى كارثة (مدمرة)، إذا لم تبادر الحكومة لرفع سعر الماء. والذي لا يعرفه هؤلاء أنّ سعر الماء في أغلب البلدان التي تجري فيها الأنهار، أعلى وبكثير من قيمة المياه في بلادنا. حل تحلية مياه البحر حلاً مكلفاً، ولن يؤدي قطعاً إلى حمل المواطن على ترشيد استهلاكاته المائية في المحصلة. والدولة حينما رفعت سعر الماء، ليس هدفها أن تحقق إيراداً حكومياً إضافياً من خلال رفعه، وإنما كان الهدف منه تحفيز المواطن للمساهمة فعلياً في ترشيد استهلاك الثروة المائية الغالية، فضلاً عن أن المواطن، خاصة المواطن منحدر الوعي، سيعمد إلى أن يرفع صوته ويتذمر عندما تلقى على عاتقه تكاليف إضافية حياتية. ولأولئك الذين يقولون: لماذا لم يتم التدرج شيئاً فشيئاً في زيادة التعرفة، فلهم أقول: لأنّ القضية من الخطورة إلى درجة لا خيار لمواجهتها إلا المبادرة (قفزاً) وليس تدرجاً في تصحيحها، فالقضية من الخطورة إلى درجة لا يمكن حلها إلا بمثل هذه القفزة في الأسعار، والتي لا تكفي إلا إذا اتخذت الحكومة - أيضاً - قراراً بتحجيم الزراعة في حدودها الدنيا. سادتي : لا بد مما ليس منه بد، رضي من رضي وغضب من غضب. إلى اللقاء