بروز الموهبة لا يأتي بمجرد اكتشافها، فإن الموهبة لا تظهر بوحدها، ولو كان الأمر كذلك لرأيت المواهب في كل بيت وبيئة عمل، ولكن هناك أشخاص برزت مواهبهم رغم كل الظروف القاهرة والصعبة التي عاشوها، وهناك أشخاص لم تظهر مواهبهم مع أن الظروف متاحة لهم اجتماعياً (كأسرة متفهمة) ومالياً (أمورهم ميسورة)، ولكن افتقدوا أهم صفات الشخص الموهوب، وأهملوا الاعتناء بها أو لم يفهموا كيفية معايشة هذه الصفة الأساسية في إظهار الموهبة وبروزها واستثمارها، فكما أن المواهب لها مهارات فكذلك لها مبادئ، وأهمها مبدأ الصدق. سمعنا نظرية القيادة المشهورة وهي: (نظرية الرجل العظيم)، أي أن القادة لا يصنعون إنما يولدون، والوقت لم ينفِ هذه المقولة أو يؤكدها، بل كان عادلاً في النظر إليها، فهناك أشخاص ورثوا القيادة وراثة لتكوينهم من أجدادهم وآبائهم، وهناك أشخاص تعلموا القيادة بالاحتكاك والاطلاع والممارسة وحققوا نجاحات فريدة في وظائفهم وشركاتهم، ولكن الصفة المشتركة بين الاثنين هي الصدق، فالأول استثمر الموهبة الموروثة بالاقتداء بأثر من سبقه، والثاني حدد هدفاً وتعلم بالمشاهدة والمعرفة ليصل إلى ما يريد، فلو افترضنا بأن الأول لم يصدق مع الموهبة التي ورثها فلن تظهر موهبته، مهما كان تاريخ آبائه وأجداده، والثاني لن يعدم الوصول للموهبة إذا تحلى بالصدق مع موهبته، مهما كانت المسافة بعيدة بينه وبينها، لأن الصدق يقرب المسافة، والإهمال يجعلها أكثر بعداً وتعقيداً. اطلعت على تقرير بعنوان: (كتّاب: لسنا حيطة مايلة)، تناول فيه حالة الكاتب في هذا الوقت، وأنواع الكتّاب، وما هو مأمول مستقبلاً، فبعض الكتّاب عزف عن الكتابة باحثاً عن لقمة عيشه وتوفير طاقته لهذا الغرض الاقتصادي، ونوع استمر في الكتابة لكن على مضض، ونوع استمر بالكتابة من دون مقابل لأنه يرى بأنها رسالة لا وظيفة فقط، وقد أشار بعض المشاركين في التقرير إلى ضرورة الاهتمام عن طريق رعاية الكتّاب والمساواة بلاعبي كرة القدم. وأمام هذه الآراء، لا بد من التأكيد أن الكتابة موهبة كبقية المواهب، تنمو بالرعاية والاهتمام، وتذبل وتضعف بالإهمال، والصدق وحده كفيل أن يتوج جهود الموهوب مهما طال الزمان، لأن النجاح هو ثمرة مثابرة ومبادرات، فهل كنا نقرأ للجاحظ لو أنه هجر الكتابة بحجة عدم وجود من يرعى موهبته أو لفقره؟ لكن صدقه مع موهبته جعلاه يتخطى كافة التحديات ليخط بيده مجموعة من الكتب المبدعة أدبياً وفكرياً وثقافياً.