حلق الوادي امتلأ بماء السيل، الماء الهادر مشط جذوع الأشجار والأحجار؛ ليقذف بها دون هوادة في منخفضات سحيقة. رفع الأهالي أكفهم تضرعاً إلى الله بأن يكف عنهم اندلاق المطر، اختلطت دعواتهم بأصوات هدير الماء المجلجل في الشعاب وقصف الرعد الذي يصم الآذان. أنين جارح يخترق غلالة الليل كمسمار يدقه مجنون في جذع شجرة، امرأة ثلاثينية ذات وجه كطلع ثمرة تبكي بحرقة، وتضم طفليها بحنو بالغ. الحزن يلمع في عينيها حين يخطف البرق خاصرة الفضاء.. «صالحة فقدت زوجها سالم بفعل نزوة ماء اندلق من سفح الجبل» هذا ما قاله عريف القرية مشني. ضوء الفانوس الباهت المتقطع يسمح برؤية سريعة وغير دقيقة لملامح وجهها، شرشف أبيض غطى جسده، النوم جفل من عيني صالحة، الطفلان اتّكآ على حجر صالحة وراحا في نوم متقطع. بين أضلاع صالحة نبت حزن كشجرة طلح، وراحت ذاكرتها تحرضها لاسترجاع أطياف مواقف عاشتها مع فقيدها، كانت ذاكرتها تنبش مواقف لذيذة، تقدمت نحو سالم، وضعت يدها اليمنى على جبينه، مرّرت أصابعها بحنو بالغ على عينيه المنطفئتين وأنفه وفمه وذقنه المشوبتين ببياض باهت، قالت وهي ترتكز بنظرها في وجهه: كنا سعداء! سعداء بوجودك، واستمرت تتحدث بصوت متهدج، أثناء ذلك لمحت وميضاً في شفيف عينيه، سرت رعشة في مفاصل جسدها، دققت النظر في وجهه، كانت عيناه نصف مغلقتين، قربت رأسها من جسده اشتمت رائحته، استمرت تتحدث بكلمات اختلطت مع دموعها، اخضلت صفحة وجهها بدمع ساخن، قالت: ها نحن نعيش اليتم يا سالم. ند صوت خفيض ومتحشرج..لا.. لا.. قالت وهي تتأوه: نعم.. نعم.. تركتنا، تركت طفليك سعد وسعيد كزهرتين نضرتين غضتين. انفرج فم سالم قليلاً.. شهقت صالحة وقالت: أتذكر ياسالم أتذكر.. وراحت تتحدث، وتتلمس يده الباردة. تراجعت إلى الوراء في فزع، انكبت عليه مرة أخرى والكلام يتساقط من فمها عن ذكريات أفلت. استمر الليل كطريق طويل شائك، لم يوقف استمراره إلا كرة بيضاء ملتهبة انفرجت من شق السماء الشرقي، ليتوافد أهل القرية نساء ورجالاً وأطفالاً إلى منزل صالحة الحجري المتكئ على ربوة مرتفعة. قال عريف القرية بصوت سمعته آذان الحاضرين: ادعوا له بالرحمة، هذا قضاء وقدر، احفروا القبر وواروا جسده التراب. قام صالح قائلاً بصوت مكلوم: سالم أعرف أنه صديقي، ما هو بخطل أن يضع قدميه في الماء الهادر. نهره العريف، وقال بصوت عال: تعترض يا صالح على قضاء الله وقدره. قال الحاضرون الذين تحلقوا حول جثة الميت: إنا لله وإنا إليه راجعون.. لا حول ولا قوة إلا بالله. حزام، كان متأهباً لحمل جثة سالم التي وضعت فوق لوح خشبي وغطيت بقماش أبيض، عدد من الأيدي امتدت إلى النعش، وحملته إلى القبر هناك واروه تحت التراب، قام حزام وباستعجال ليرش الماء على ربوة القبر الصغيرة. انقضى رجب وشعبان ورمضان، وبعد أفول هلال شوال رش العريف العطر على مشلحه الوبري واشتعل منزله بالمصابيح، ونثر الصحون الممتلئة بالخبز واللحم في باحة المنزل، وبح صوت حزام وهو يرحب بالضيوف، وانهمك سكان الوادي في التهام الطعام، وكانت صالحة تنظر بعينين فائضتين بالدموع إلى نقوش الحناء في يديها، وهي تتمتم بصوت خفيض. جمعان الكرت