عندما عبرتُ الشارع متجهةً إلى المقهى الذي اعتدت الجلوس فيه، كان يسير خلفي بفارق خطوةٍ أو خطوتين، ما جعلني أسمعُ حديثه مع نفسه بوضوح، أظن أني أعرف هذا الصوت..! كأنه يحاول إثبات أمرٍ ما بشرحٍ فلسفي متقن. قطعنا الشارع واتجه كلانا شرقًا، لم ألتفت ولم يتقدمْني بخطواته وكأننا نتفق على هذا المسافة المقربة بيننا، يا إلهي كيف لي أن أنسى ذلك الصوت، لطالما أحببت صوته..أكاد أجزم بأنه هو! قطعنا قرابة كيلومتر وهو يناقش ويحاورُ نفسه ويناضل لإثبات فكرته العزيزة، إنه هو.. لم يتغير، يبرر، يراوغ، ويقنع نفسه قبل أن يقنع الآخرين. بعد بضع أمتار اتجهتُ جنوبًا، سلكتُ الشارع الفرعيّ الضيق المؤدي إلى المقهى القديم، هناك حيث كنّا نلتقي، وإذ به يسلك الاتجاه نفسه، تبيّن لي أنه يقصد المقهى أيضًا! دفعتُ الباب متجهةً نحو الشاب الثرثار خلف «المشرب» حيث اعتاد على طرح أسئلة لا يجرؤ على الإجابة عنها، ابتسم لي ثم على عجلٍ شهق مبتهجًا: * «دكتور هانكس!».. أين أنت يا رجل؟ لقد افتقدتكَ كثيرًا. بقيتُ واقفةً أنتظر طلبَ قهوتي دون أن ألتفت. * أهلاً صديقي، كنت مسافرًا. ثمة أمرٌ غريب يحدث؛ صوتُه يخترق شيئاً آخر غير أذنيّ! صوته الصارم الواثق الذي لطالما أثار رغبتي باستمرار لسماعه، ولا أعلم لماذا أخذت الأمر بتحدٍ أرعن غير مبررٍ، بعدم التفاتي! * دع عنك الثرثرة الآن، أعلم ما ستقول، السيدةُ تنتظر طلبَ قهوتها. * دكتور هانكس هذه فيونا، ظننت بأنكما جئتما معًا..! هنا، التفتُّ صاعدةً بوجهي نحو رجلٍ طويل القامة عريض المنكَبين، تميل بشرته للسمرة ويخالط سواد شعره شيب ناصع. لم يتغير، وكأن السنين لم تأخذ منه شيئًا. أذكر بوضوح شديد تلك الحرقة التي أصابت صدري. عينان متّقدتانِ ذكاءً وحكمة تلمعان مثل شهاب في ليلةٍ صيفية صافية. في تلك اللحظة أطبق الصمت على المكان برمته، وهانكس تبدو عليه الصدمة وعدم التصديق. ابتسمتُ وألف فكرة تتقافزُ أمام وجهي وكأني وقعتُ في قفصٍ مليء بالقردة المذعورة. أرجوك، كوباً كبيراً من القهوة من دون سكّر «قلت لجوزيف» * حسنًا تفضلي بالجلوس، سأحضرها لك خلال دقيقتين. تركت هانكس هناك واقفًا وسط صمته ودهشته عند رؤيتي. سرتُ نحو طاولة بجانب الزجاج المُطل على الشارع، جلست أراقب بطرف عينٍ تحركاته. بعد دقائق تقدم نحوي يحملُ في يديه كوبَين من القهوة ينظر لي ويبتسم، مدّ لي قهوتي قائلاً: «أظن أننا نفضل الطاولة نفسها»! هل يزعجك أن نتشارك الطاولة!» أبداً أبداً.. تفضل «قلت». جلس أمامي مباشرة، حجم الطاولة الصغير جعل الأمر أكثر إرباكاً بالنسبة لي. وبصوته النافذ: «هل أربككِ وجودي؟!» أجبت على عجل: «لا لا» تنفس بقوة وقال: مضى وقت طويل فيونا..! نظرتُ إليه وأنا استحضر تلك الأيام التي قضيناها سويًا وكيف كان حبه لي غامرًا ولا يوحي بأنه سيخذليني يومًا ثم أجبته بمرارة: نعم مضى وقت طويل منذ هروبك. ضحك بصوت مسموع ثم قال: «فيونا لم تتغيري؟» * ولِمَ عساي أن أتغير؛ لطالما كنت صادقة ولن أكون غير ذلك..! لقد أحببتك بشدة وخذلتني، حتى أني لم أحظَ بوداعٍ يليق بذلك الحبّ.. * أعلم بأني خذلتك، ولكني رغم تفضيلي السفر والعمل خارجًا على علاقتي بكِ، إلا اني ومع مرور كل ذلك الوقت أيقنت أني اقترفت خطأ عظيمًا. * فيونا.. أنا لم اتوقف عن حبك يومًا، كنتِ في كل النساء اللاتي التقي بهن في كل مكان، واحدة تمتلك ابتسامتك، وأخرى لها لون شعرك، وثالثة بنفس قوامك، وكأنك كل النساء. لم تستطع أي امرأة أن تكون أنتِ. نظراته المتلاحقة تكسر ألواح الجليد في صدري واحدًا تلو الآخر، وكأنها بندقية بيد قناص، أنفاسه الواضحة وهو يتحدث تصيبني بالدوار، صوته الرخيم يكشف هشاشتي ويكسر قشرة القسوة المصطنعة، كان ينسكب في أذنيّ، ثم ينتقل إلى فمي بطريقة ما، أبتلع لعابي وكأني أتذوقه حلوًا ولاذعًا في الوقت نفسه، إنه يعيدني إليه بطريقة سحرية. ماذا يريد؟ ماذا أريد أنا؟ كيف يحدث ذلك في أقل من ساعة!كم أودّ اللجوء إليه كما في السابق ألقي بنفسي بين ذراعيه وأحتضنه وأخلع ذاكرتي وأبدأ معه من جديد. كيف للسكينة أن تكون هو..تصيبني بمجرد النظر إلى وجهه وسماع صوته؟ لطالما أخذني صوته حيث السنابل والمروج الممتدة ورائحة القمح ليلًا عندما يصيبه الندى. -حسنًا.. سأذهب الى دورة المياه وأعود حالًا -بالطبع.. أنا بانتظارك عزيزتي. دخلت دورة المياه، رشقت وجهي ببعض الماء وتنفست الصعداء وكأني تخلصت فجأة من كل همومي وأوجاع روحي، إنه هنا الآن.. لن أدعه يذهب هذه المرة، نعم يمكننا البدء من جديد، لن أنكر ذلك؛ لم أستطع تخطيه أبدًا ولم أزل أحبه، وسنتخطى ذلك الفراق اللعين وسأنسى بأنه تركني وذهب، إنه نادم الآن، يقرّ بحبه وأنا لا أملك إلا أن أصدقه. حسنًا يا فتاة عودي وكوني جاهزة لعناقه اللذيذ. * جوزيف.. أين ذهب هانكس..! * هانكس؟! -مابكَ يارجل.. دخلنا توًا إلى المقهى وجلب قهوتي معه وجلسنا هنا! -فيونا عزيزتي.. لقد دخلتِ وحدك، ولم يكن برفقتك أحد وأنا من جلبت لك القهوة! * قاصة أردنية شفا المسند