تمكنت اللغة العربية منذ الأزل من أخذ مكانتها اللائقة بين اللغات العالمية الحيَّة لمكانتها السامية التي أحرزتها وتبوأتها عبر تاريخها الطويل في مجالات العلوم الدينية والشرعية، ناهيك عمّا وصلت إليه في ميادين الشعر والأدب والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والفلك والطب والهندسة والكيمياء والصيدلة، كما يتبدَّى لنا قدرة اللغة العربية على استيعاب النقلة الحضارية الهائلة التي تمثلت في الكم الزاخر من المصطلحات السياسية والقانونية والإدارية والاقتصادية والعلمية والتقنية، إلى غير ذلك مما عجّت وحفلت به الكتب في الميادين العلمية والثقافية والمعرفية المتعددة. كما يمنحنا القدرة على تصور الجهد العظيم الذي بذلته المجامع العربية المعاصرة في توليها شطر التراث البلاغي العربي ليتناسخ في جسد الثقافة التقنية المعاصرة ويلتحم بها ليستحيل فيه نماءً وعنفوانًا وإثراءً واصلين بذلك حاضر هذا التراث البلاغي العربي بماضيه التليد. ولغة ذاك شأنها وقدرها وتلك مكانتها وجلالها لحري بنا أن نحميها ونصونها ونحافظ عليها من العبث والتشويه. ولنستعرض فيما يلي نبذًا يسيرة من تلك الجماليات التي تُطرز وتُزين لغتنا العربية لتجعلها أكثير حيوية وبهاءً ونبضًا ورواءً، ومنها ما يلي: (الجناس) أحد مكونات علم البديع الذي هو أحد أركان البلاغة العربية الثلاثة (البديع، المعاني، البيان) وهو اختلاف المعاني لكلمة واحدة، ويُعتبر الجِناس من المحسنات اللفظية ذات التراكيب اللفظية والعلاقات المرسومة على نحو دقيق يحدث نغمًا موسيقييًا تأنس له النفس ويطرب له السمع، كما يؤدِّى إلى حركة ذهنية تثير الانتباه عن طريق الاختلاف في المعنى، ويزداد الجناس جمالاً إذا كان نابعًا من طبيعة المعاني التي يعبر عنها الكاتب ولم يكنْ متكلَّفًا أو مبالغًا فيه وإلا لكان زينة شكلية لا قيمة لها، وهذا الإبداع يضفي على المعاني سحرًا وجمالاً متميزًا بل ويكسبها حللاً قشيبة يستطيع المبدعون في النثر والشعر استغلالها خير استغلال في إحداث الاستثارة الفنية والاستجابة المنشودة لدى المتلقي. ويُعرَف الجناس بأنه اتفاق أو تشابه كلمتين في الحروف واللفظ والتشكيل واختلافهما في المعنى، وفيما يلي أمثلة لذلك: (عيونكِ للهوى وَصَفتْ ** فَراقَتْ ليلتي وَصَفتْ)، أيضا (ودعت جاري والدمع جاري). (الاحتباك) الاحتباك هو فن وأسلوب جميل من البديع في اللغة العربية للأسف لا يعرفه الكثير من أبنائها. وللتبسيط فقد اشتُقَّت هذه الكلمة من الحبكة أي الشد والإحكام والمهارة والإبداع في الصنع، وفي اللغة العربية أن يجتمع في الكلام متقابلان فيحذف من الأوائل ما جاء مقابله أو نظيره في الأواخر، ويحذف من الأواخر ما جاء نظيره أو مقابلة في الأوائل. وسماه البعض (الحذف المقابل)، وأكثر ما جاء هذا اللون من البديع في القرآن الكريم... كقوله عز وجل: "فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ" أي فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله وفئة كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت، فحذف من الأولى (مؤمنة) وحذف من الثانية (تقاتل في سبيل الطاغوت). وكقوله تعالى: "وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ" أي أدخل يدك تدخل غير بيضاء، وأخرجها تخرج بيضاء، فحذف من الأولى (غير بيضاء) ومن الثانية (وأخرجها). (التورية) في علم البديع، تضفي على المعنى غموضًا يصل إلى حدَّ الإبهام؛ إذ فيها ظاهرة الخفاء والتجلي التي يثير ذهنية المتلقي للنص الأدبي، وهي كذلك لفظ له معنيان: أحدهما قريب غير مراد أو مقصود، والآخر بعيد هو المراد المقصود، ويُدل عليه بقرينة يغلب أن تكون خفية فيتوهم السامع أنه يريد المعنى القريب، وهو يريد المعنى البعيد، وقد تكون الغاية منها استثارة الذهن، أو الهروب من العتاب واللوم والمساءلة. (الكناية) هي تعبير لا يقصد منه المعنى الحقيقي، وإنما يقصد به معنى ملازمًا للمعنى الحقيقي، أو هي: تعبير استعمل في غير معناه الأصلي (الخيالي) الذي وضع له مع جواز إرادة المعنى الأصلي (الحقيقي). (الاستعارة): وهي نوعان: تصريحية ومكنية، فالتصريحية ذكر فيها المشبه به وحذف المشبه مع بقاء شيء من لوازمه للدلالة عليه مثل قوله تعالى: "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ". لغتنا العربية هي من أكثر اللغات إثراءً واتساعًا وانتشارًا ومن أبهاها حسنًا وجمالاً ونضارة ورواءً. ولقد استبشرنا خيرًا بذلك العمل العظيم الذي تفضل به خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله بتأسيس "مَجْمَع الملك سلمان العالمي للغة العربية" عام 1442 ه ليصبح ذروة سنام الاهتمام باللغة العربية ومتممًا ومتوّجاً للجهود التي تبذلها المجامع العلمية الأخرى في العالم العربي بل وفي العالم أجمع؛ فمن خلاله -بمشيئة الله- ستتحقق الرؤى المكتملة في دعم لغتنا التي نزل بها القرآن الكريم، آملين ومتطلعين أن يخطو هذا المَجْمَع خطوات مباركة في سبيل دعم اللغة العربية والاهتمام بها، وبخاصةٍ تلك التي يتطلع إليها العصر، كالعلاقات البينية للغة العربية والهموم الرقمية والتطور الحاسوبي وتحديات الذكاء الاصطناعي، كذلك أن يسعى هذا المَجْمَع المبارك إلى نشر الوعي اللغوي وبيان قيمته وأهميته وتربية الذوق السليم ومحاربة التلوث اللغوي والنهوض بالفصحى وتقريبها وتبسيطها وجعلها أكثر مواكبةً؛ إضافة إلى خدمة الثقافة العربية وتعريب المصطلحات الجديدة، والمتنامية وبالغة الصعوبة، وهذا ما يجعل من المَجْمَع فرصة كبيرة للانفتاح على العقل اللغوي العالمي وتحولاته المتنامية؛ وبذلك يشكّل مبادرةً ثقافية وحضارية عالمية؛ لذلك تعوّل أكثر المجامع اللغوية على مَجْمَع الملك سلمان العالمي للغة العربية بأن يكون إضافةً كبيرة، وصرحاً عظيماً تتجلى من خلاله ريادة المملكة العربية السعودية في خدمة اللغة العربية التي نبعت ونبتت وانتشرت من أرضها المباركة. * جامعة الملك سعود