تتجلى عظمة اللغة العربية وسموها ورفعتها أنها في المقام الأول اللغة الوحيدة التي خصها واجتباها وشرفها رب العزة والجلال بأن تكون لغة القرآن الكريم، وذلك يتبدى في آيات كريمة وردت في عدد من السور، منها قوله تبارك وتعالى: "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" فصلت: 3. وقوله عز من قائل: "وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا" طه:113. ولقد تمكنت اللغة العربية منذ الأزل من أخذ مكانتها اللائقة بين اللغات العالمية الحية لمكانتها السامية التي أحرزتها وتبوأتها عبر تاريخها التليد في مجالات العلوم الدينية والشرعية، ناهيك عمّا وصلت إليه في ميادين الشعر والأدب والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والفلك والطب والكيمياء والصيدلة، كما أفادت اللغة العربية من الترجمة والتعريب مما زادها توسعاً واتشاراً وعالمية وثراء، حيث إن اللغة العربية لغة مرنة وطيعة تقبل الألفاظ والمصطلحات الأجنبية وذلك لسهولة النحت فيها والتصريف والاشتقاق والقياس. ولقد فسر بعض العلماء قول الله تبارك وتعالى: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" البقرة: 31 بقولهم إن الله سبحانه منح آدم القدرة على تسمية الأشياء، وأورث ذلك لبنيه، ومن هنا يمكننا فهم كيفية اختلاف الألسنة ومسيرات اللغات ومواكبتها للتطور والارتقاء، ولعل تلك القدرة هي التي تفسر لنا الظاهرة التاريخية في استيعاب اللغة العربية لمفاهيم الدين ومصطلحاته من فقه وصلاة وعبادات وزكاة وشرك ونفاق وأنفال، إلخ، كما يفسر لنا قدرة اللغة العربية على استيعاب النقلة الحضارية الهائلة في العهدين الأموي والعباسي التي تمثلت في الكم االزاخر والموج المتلاطم من المصطلحات السياسية والإدارية والقانونية والاقتصادية والعلمية، إلى غير ذلك مما عجّت به الكتب في الميادين العلمية المتعددة، كما يمنحنا القدرة على تصوُّر الجهد العظيم الذي بذلته المجامع العربية المعاصرة في توليها لغتنا شطر التراث البلاغي العربي ليتناسخ في جسد الثقافة التقنية المعاصرة ويستحيل فيه نماءً وعنفوانًا وتدفقًا وإثراءًا واصلين بذلك حاضر هذا التراث البلاغي العربي بماضيه العريق إلى جانب العمل نحو كبح جماح المصطلحات الغربية بالمئات من المصطلحات العربية ذات المعاني الجديدة مثل: السيارة والطيارة والثلاجة والحافلة والشاحنة والهاتف والمذياع وغيرها، حتى وصل الأمر إلى ظاهرة تزاحم المصطلحات للشيء الواحد تبعاً لاختلاف الدول والمصطلح السائد والمتعارف عليه بها، ومن أمثلتها: الجوال والمحمول والنقال والخلوي لجهاز الاتصال الهاتفي المعروف، مما يشير إلى خصوبة اللغة العربية وقدرتها الهائلة على التوليد واصطناع المصطلحات الجديدة ومضاهاتها. وكما قيل قبلاً: "الحضارة هي مجرد قرار! حيث إن الكثير من أصحاب اللغات الميتة والمندثرة اتخذوا قرارًا بإحياء لغاتهم من الموات والبوار فكان لهم ما أ رادوا، ومن ذلك اللغة العبرية (في إسرائيل) حينما اتخذوا قرارًا جريئًا بجعل العِبْرية لغتهم الأولى على الرغم من تلاشيها واعتمدوها لغة للعلوم، واستطاعوا أن يبعثوها للحياة لإدراكهم أهمية اللغة لهوية الأمة! كما استطاع أهل اللغتين الإنجليزية والفرنسية بعثهما إلى الدرجات الأولى في لغات العلم بعد أن كانتا من اللغات الركيكة والضعيفة التي يخجل ملوكها من التعبير بهما حيث كانوا يعبرون عن قراراتهم الملكية والإدارية والسياسية باللغة اللاتينية القديمة! وما ذكرنا ذلك إلا من باب الرد المنطقي على من يتبنَّون اعتماد المصطلحات الغربية ويسخرون من اعتماد المصطلحات العربية الجديدة معتقدين بأن ذلك جهد كبير مضنٍ لا داعي له، أما أنه مضنٍ فليس الأمر كذلك لأن التسمية خصلة تلقائية في الإنسان يمارسها الأطفال والكبار بعفوية فطرية، وأما أنه لا داعي له، فلهم أن يتخيلوا حجم المصطلحات الغربية المتدفقة دون تعريب بعد سنوات قلائل حيث ستطغى المصطلحات الغربية على لغتنا فتندثر -لا سمح الله- بشكل تدريجي ونحن في موقف المتفرج ليس إلا! إن وسائل التوسع اللغوي من أبسط المهام الفطرية التي تمارسها اللغة العربية، مع يقيننا بأن باب الاشتقاق ربما يكون هو البوابة الأرحب والأوسع لذلك التوسع المقصود به صناعة مصطلحات جديدة يتم توليدها من اشتقاقات متعددة بناء على معطيات المسمى الجديد، مع الاعتماد جزئيا على وسائل التوسع اللغوي الأخرى، وفي مقدمتها النقل المجازي، ثم النحت، ثم التعريب ثم الإدخال والاشتقاق، مع ضرورة التضييق في البابين الأخيرين وعدم اللجوء إليهما إلا في أضيق الحدود. والاشتقاق يُعد من أنجع الوسائل لتوليد الألفاظ والصيغ، والصلة بينه وبين القياس وثيقة، لأنّ الاشتقاق هو عملية استخراج لفظ من لفظ أو صيغة من أخرى، أما القياس فهو الأساس الذي تُبنى عليه هذه العملية لكي يصبح المشتق مقبولاً معترفًا به بين علماء اللغة، فالقياس هو النظرية، والاشتقاق هو التطبيق. إنّ وضع الكلمات الحديثة في اللغة يجري إما على طريقة الاشتقاق وإما على طريقة التعريب، ولا مانع من الجمع بينهما، ولا يُلجأ إلى الاشتقاق في وضع كلمة حديثة إلا إذا لم يعثر في اللغة على ما يؤدي إلى معناها بخلاف التعريب حيث يجوز تعريب كلمة أعجمية مع وجود مفهوم لها مناظر في العربية، كما هو الشأن في أكثر المُعرَّبات الموجودة في اللغة إلا في حالات الاضطرار في الألفاظ العلمية والفنية التي يصعب وجود المناظِرات العربية لها كما لا يُحبَّذ الإدخال والتعريب في الألفاظ الأدبية. ونود فيما يلي عرض شيء من وسائل التوسع اللغوي في اللغة العربية من خلال التعريب الذي أفادت منه اللغة العربية مما زادها توسعاً وانتشاراً وعالميةً وثراءً، حيث إن اللغة العربية لغة مرنة وسلسة وطيعة تقبل الألفاظ الأجنبية والمصطلحات التقنية وذلك لسهولة النحت والتصريف والاشتقاق والقياس فيها، ومع ذلك فلا يتم القيام بعملية التعريب إلا عند الحاجة والضرورة. لذا يستحسن عند تعريب الألفاظ والمصطلحات الأجنبية والدخيلة أن يراعى ما يلي: إذا تم نقل اللفظ الأجنبي الى اللغة العربية من دون تغيير سُمّي (دخيلاً)، واذا وقع عليه التغيير سمي (معربًا)، ومن أمثلة الدخيل (أوكسجين، هيدروجين، نيتروجين، كربون، أمونيا، أيون، نيترون، إنزيم، أكاديمي، السينما)، ومن أمثلة المُعرَّب (التليفون، التلغراف، الراديو وكثير من دول العالم مثل: بريطانيا وفرنسا والسويد والنرويج). يفضل التغيير في شكل المصطلح حتى يصبح موافقًا للصيغة العربية ومضاهيًا لها، فمثلاً عندما ترجمت كلمة: تلفزيجن إلى العربية وأصبحت (الرائي) لم تجد هذه الكلمة العربية قبولاً مستساغًا فكان لا بد من تعريب الكلمة الأجنبية مع بعض التغيير الذي يضاهي العربية فأصبح لدينا كلمة: تلفاز (وإن كانت غير مستخدمة على نطاق واسع)، كما نجحنا في تعريب التلفون ليصبح: الهاتف (وإن كانت الأولى لا تزال مستخدمة كلفظها الأصلي) وكذلك: كمبيوتر إلى حاسب آلي أو حاسوب وكذلك راديو إلى مذياع. وعند تعريب المصطلح العلمي يمكن كتابته باللغة العربية بصيغة أو بناء يوافقه ويضاهيه مع المحافظة على معناه ولفظه قدر المستطاع، فمثلاً كلمة: فيزيكس عربت فيزياء، وكذلك تكنولوجي أصبحت: تقنية وماستر صارت ماجستير وكوليج: كلية، وبتروليوم: بترول، وموتور: محرك، وفاكسميلي: ناسوخ و بايسيكيل دراجة وموتر: سيارة وتليجراف: البرقية والباص: الحافلة، وقابس بدلا من كلمة الفيش وهي مصدر التيار الكهربائي، وهكذا. يجب اعتبار المصطلح المعرب عربيًا بحيث يخضع لقواعد اللغة العربية ويجوز فيه الاشتقاق والنحت والتصريف وتستخدم فيه أدوات البدء والإلحاق مع مواءمته للصيغة العربية، وهذه بعض الأمثلة: بروتون: يمكن جمعها جمع مؤنث سالم فتصبح: بروتونات. إلكترون: يمكن إلحاقها بأل التعريف فتصبح: الإلكترون. أكسيد: يمكن جمعها جمع مؤنث تكسير فتصبح: أكاسيد، يمكن اشتقاق فعل منها فتصبح: يتأكسد. دكتور: يمكن جمعها جمع تكسير فتصبح: دكاترة. يحب تصويب الكلمات العربية التي حرفتها اللغات الأجنبية واستعمالها باعتماد أصلها الفصيح، فمثلاً كلمة syrup أصلها العربي: شراب، وكلمة alcohol أصلها العربي: الكحول، وكلمة gas أصلها العربي: غاز، وكلمة arsenic أصلها العربي: الزرنيخ. ثمة كلمات أجنبية دخيلة (وما أكثرها) اخترقت لغتنا العربية عنوة واحتلت حيزًا بين مفرداتها وتمَّ استخدامها طوعًا دونما وعي أن في العربية معان ٍومترادفات تحل محلها وتغني عنها، فخذ على سبيل المثال: لوجستي: عتاد، إثني: عرقي، بريستيج: فخامة، كاريزما: جاذبية، ماراثون: سباق، كود: نظام أو رمز، لوبي: تأثير، كلاسيكي: تقليدي، رومانسي: عاطفي، الإيتيكيت: الذوق، أوتوماتيك: تلقائي دراما: مشكلات نفسية وعاطفية، كوميديا: مرح وترفيه، تراجيديا: مأساة (كارثة)، كنترول: تحكم (سيطرة)، كورنيش (أو بلاج): شاطيء، تكنولوجيا: تقنية، بروتوكول: اتفاقية أو معاهدة، دبلوماسي: سياسي، أكاديمي: علمي، دبلوم: إجازة، سوشيل ميديا: التواصل الاجتماعي. كما أن هناك أيضًا كلمات أخرى مستجدة لا مندوحة من إيجاد تعريبات لها مثل: مول وجاليريا وبلازا، إلخ، كما أن الزائر لأسواقنا الراقية الجديدة يلحظ بكل أسى وأسف أن الكلمات والمسميات الأجنبية أضحت طاغية على معظم إن لم يكن كل اللافتات والإعلانات والدعايات الموجودة بها. وفي الختام، فإن مَجْمَع الملك سلمان العالمي للغة العربية والذي يحمل اسماً غاليًا علينا جميعًا يأتي تثمينًا وتقديرًا لجهود خادم الحرمين الشريفين -يحفظه الله- المخلصة وحرصه لخدمة اللغة العربية ودعمه لكل الجهود المبذولة في سبيل صوْنها وحمايتها والمحافظة عليها، فهذا المَجْمَع سيكون مَجْمعًا عالميًا لخدمة اللغة العربية ودعم سياقاتها وصياغاتها وتطبيقاتها اللغوية الحديثة، كما سيؤكد ريادة المملكة في خدمة لغة القرآن الكريم إلى جانب إبراز مكانة اللغة العربية وتفعيل دورها إقليمياً وعالمياً، وتعزيز قيمها المعبرة عن العمق اللغوي للثقافة العربية والإسلامية، كما سيعمل على تعزيز الهوية الثقافية العربية وتشجيع إجراء البحوث والدراسات المتعلقة باللغة العربية والإسهام في أعمال التعريب والترجمة من اللغة العربية وإليها إلى جانب التعاون مع المجامع والهيئات اللغوية العلمية الأخرى داخل المملكة وفي البلدان العربية الأخرى في كافة المجالات التي تتفق مع أهدافه في خدمة اللغة العربية والحفاظ عليها.