يجمع الراحل فضيلة الشيخ يعقوب بن عبدالوهاب الباحسين عضو هيئة كبار العلماء في شخصيته أبعاداً متعددة، فهو الإنسان الذي يألف ويؤلف، ويُقبل على الجميع بحب وود، فلا تراه إلا مبتسماً، والتواضع فيه طبيعة وجبلة، فإذا كان بمجلس يسمع ويتابع باهتمام من دون أن يشارك إلا إذا سُئل. كان همه الأكبر العلم ثم العلم ثم العلم، فتمحض له وسخر وقته وماله لذلك، فأعطاه من كنوزه مما فتح الله عليه، حتى بات من أعلم أهل عصره في علم الأصول، وقدم درراً علمية أضافت لما قدمه الأوائل، وأشعر حين أكون بجواره أنها فرصة فأغتنمها في حوار فقهي ممتع يتدفق من معين لا ينضب. والشيخ أبو يوسف، تفرد في التدقيق الفقهي وغوصه في أصول الفقه واللغة العربية مما مكنه من استخراج كنوز خدم فيها الميدان العلمي وصار عنده بناء ليس عند الأولين، وهذا سبب من أسباب بروز الرجل وأستاذيته ومكانته المستحقة، ولذلك استحق جائزة الملك فيصل رحمه الله للدراسات الإسلامية، وهذا يشهد على علو كعبه في العلم والتحقيق والتدقيق، وترك -رحمه الله- مؤلفات قيمة في علم الأصول منها: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، قاعدة اليقين لا يزول بالشك، قاعدة الأمور بمقاصدها، قاعدة العادة محكمة، قاعدة المشقة تجلب التيسير.. وغيرها من الكتب الأصولية. كنت ذات ليلة في لقاء ألقي موضوعاً إعلامياً، وكان هو أحد الحضور، فلما انتهيت إذا به يسألني أسئلة دقيقة في «أصول» المفاهيم التي أطرحها، وماهية المقصود بها.. فكأنه ينبهني إلى تحرير المصطلحات التي وردت في عرضي للموضوع، والحرص على الدقة في مدلولات المعاني، فكان سبباً في مراجعتي والعمل في بلورة المفاهيم، فكان أحد إصداراتي من بركات كلماته الرصينة. وفي أكثر من لقاء جمعني بالراحل -رحمه الله- كنت أطرح عليه أن ينشر علمه عبر وسائل الإعلام، وهو يرد علي بأن الكتب التي يؤلفها هي «الإعلام»، وعبرها تصل الكلمة والعلم، وهكذا كان منهجه إلى آخر يوم في حياته.. فخلد وراءه أثراً عظيماً، وخلّف هذا العالم الجليل للأمة ذخائر علمية قل أن يجود بها الزمان في مجال أصول الفقه.. والأمل بإذن الله أن يقيض لآثاره العلمية من يسهم في نشرها؛ بما يناسب مكانته وعلمه، وتكون مرجعاً في متناول الباحثين. والشيخ الراحل تمتع بأخلاق رفيعة وأدب جم رفعه بين أقرانه، فأحبه القريب والبعيد.. وشهد جنازته وصلى عليه جمع غفير، وتدفق على بيته جموع المعزين ممن كان للشيخ أثر في تعليمهم عبر مسيرته العلمية التي جاوزت السبعين عاماً. وكما هي عادة ولاة الأمر -أيدهم الله- في الاهتمام ورعاية العلماء، نجدهم في مقدم من يواسي ويعزي في فقدهم، فوصلت لأسرة الفقيد برقية عزاء من مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -يحفظه الله-، وبرقية عزاء ومواساة من سمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان -وفقه الله-.. إضافة إلى تواصل مشكور من أصحاب السمو الأمراء والمعالي وأصحاب الفضيلة وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية. وهذا نحسبه من عاجل بشرى المؤمن أن يجد القبول من هذا الجمع الكريم. وهنا لا يفوتني أن أنقل ما شهدته من ابنه البار يوسف أبو عبدالوهاب من اهتمام وتفرغ كاملين لرعاية والديه ليلاً ونهاراً، وملازمته والده بعد فقد والدته سعاد العقيل -رحمها الله- التي سبقته لدار الآخرة قبيل أسابيع، فكان نعم الابن لذلك العالم العَلم، ولا يستغرب الطيب من بيت تشرّب فيه العلم والخلق الكريم. ولعلي إذ أعزي نفسي والوطن والأمة الإسلامية بهذا العالم الرباني المجتهد، فإني أعزي ابنه يوسف وأخواته الكريمات وأحفاده وتلامذته ومحبيه، والله أسأل أن يتغمد فقيد الأمة بواسع رحمته، وأن يخلفنا من يسد مسده، إنه على ذلك قدير، وعلى الإجابة جدير. والحمد لله رب العالمين. *قسم الإعلام - جامعة الملك سعود