ما إن يذكر «العطر» حتى تتجلى في سماء «الشعور» وجدانية الأثر، وحينما تتباهى أسماؤه ومكوناته وتفاصيله تتعمق في «الروح» كيميائية التأثير ما بين التاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والأحياء واللغة العربية والموروث الشعبي والإرث المكاني والثقافة والأدب. حل «العطر» عنواناً لتفاصيل عدة، ترتبط بالإنسان، وتترابط مع الجمال، حتى بقي مقيماً في ثنايا الكتب، وقائماً في عطايا الشعر، وركناً من أركان التطور، مع هوية موحدة تعكس ميل البشرية إلى الدهشة، ونكوص الشخصية إلى العبير الذي تحول إلى فيضان من الذاكرة، شهدت له العصور واستشهدت به المحافل. يحكى أن امرؤ القيس في بواكير عشقه التاريخية يأسره من محبوبتيه، أم الحويرث وجارتها أم الرباب، رائحة المسك الممتزج بالقرنفل: كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ ويعود لنا مرة أخرى وصفاً لأسلوب حياتهن الفخم، فمحبوباته من أولئك اللائي يطيبن مخادعهن بفتيت المسك: وتُضْحِي فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِراشِهَا نَؤُوْمُ الضَّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ من (أسماء العطر) في معجم لسان العرب: الطيب، والشذا، والرائحة، والعرف، والعبق، والضوع، والفوح، والأريج، والعبير، وكلها أسماء حاملة لدلالة عطرة. ونجد فيه صوراً طيبة منها: الريحان، والفاغية، والخزامى، والغالية، والسُّكُّ، والزعفران. وفي (أوعية) الطيب نجد اسم: العتيدة لوعاء العطر. وتسمية القشوة لتلك القفَّة التي تجعل فيها المرأة طيبها، والجونة: آنية سليلة مستديرة مغشاة أدمًا تكون مع العطارين يعدُّ فيها الطيب. اللطيمة: وعاء للمسك، وهذا عبيد بن الأبرص يؤكد ويقول: وَمِلْنَ إلَيْنَا بالسّوَالِفِ وَالحُلَى وَبالقَوْلِ فيما يَشتَهي المَرِحُ الخَالي كَأنّ الصَّبَا جاءتْ بِرِيحِ لَطِيمَةٍ مِنَ المِسْكِ لا تُسطاعُ بالثّمن الغالي وَرِيحِ خُزَامَى في مَذانِبِ رَوْضَة جَلا دِمْنَها سارٍ منَ المُزْنِ هَطّال في اللسان اللاتيني اشتُقت كلمة (عطر) في اللغة الإنجليزية «perfume» من العبارة اللاتينية، «per» بمعنى «خلال» و»fumus» التي تعني «دخان»، وبعد ذلك أطلق الفرنسيون الاسم «parfum» على الروائح اللطيفة التي تنتقل عبر الهواء من البخور المحترق. وفي التاريخ ارتبط العطر بالدخان، وكان البخور أول أشكال العطر، إذ اكتشف قدماء العراقيين في حضارة ما بين النهرين -قبل نحو أربعة آلاف سنة- البخور لأول مرة. وجرى التقليد عندهم على حرق أنواع من الراتنجِ والأخشاب في مراسيم دينية، كما عرف عنهم فرك أجسامهم بسائل مُعطر يصنعونه من نقع الأخشاب العطرية في خليط من الماء والزيت، ويحضر العطر عندهم كذلك في عملية تحنيط الموتى. وتاريخ العطر بوجه من الأوجه مرافق لمسار تطور البشرية، فأثره حاضر عند كل الحضارات عبر التاريخ. فلدى المصريين اقتصر استخدام العطور على الطقوس الدينية كالتقرب للآلهة، وتعطير الأموات، وكان تداوله حكراً بين الكهنة والملكات وزوجات الأمراء دون بقية الشعب، وبلغت العطور ذروتها في عهد «كليوباترا» التي بوفاتها تراجع الاهتمام بها كثيراً. حل الفينيقيون محل المصريين في تصنيع العطور، وتولوا نقل هذه الصناعة إلى اليونان الذين أسهموا في تطويرها وابتكروا لكل منطقة في الجسم عطراً خاصاً بها. ووصلت العناية بالعطر حد الهوس في الحضارة الرومانية التي انتهى بها الأمر حد تعطير الأرضيات والجدران والحيوانات (الخيول، والكلاب...)، وكذا استخدام النوافير التي تخرج الماء المعطر في الحفلات. «العطر عطرك والمكان هو المكان لكن شيئاً قد تكسر بيننا لا أنت أنت ولا الزمان هو الزمان» فاروق جويدة ومهما يكن من أمر الاهتمام ذاك، فالتاريخ يسجل للعرب الريادة في عالم العطور ليس في الجانب اللغوي فقط، ولا حتى في وضع الأمثال التي نذكر منها قولهم: «لا عطر بعد عروس» الذي قالته أسماء بنت عبدالله من قبيلة عذرة بعد موت زوجها وابن عمها، يدعى «عروس». وقولهم: «أشأم من عطر مَنْشِم» ومنشم هذه عطارة، يقصدها المحاربون كي يغمسوا أيديهم في طيبها قبل التوجه للمعارك. وإنما في الاشتغال بالعطر صناعة وبحثاً وتجريباً، لدرجة أن تلك المعلومات والتفاصيل المتعلقة بأوصاف العطور، ومراكز إنتاجها في شبه الجزيرة العربية التي استهوت المؤرخين والرحالة اليونان والرومان، من أمثال: هيرودوت، وإسترابون، وبيلينوس، التي تضمنتها مصنفاتهم. كانت أهم العطور التي يعتمدها العرب في المزج والتركيب، هي: المسك والعنبر والعود والصندل، وجُلها يُستورد من الهند وبلدان جنوب شرق آسيا والصين. وكان لهم باع في الكتابة عن الموضوع، منهم: ابن النديم صاحب كتاب الفهرست يزودنا بقائمة لبعض المؤلفات العربية عن العطور، مثل: «كتاب العطر» لإبراهيم بن العباس، و»كتاب العطر» للحبيب العطار، و»كتاب العطر» للكندي، و»كتاب العطر وأجناسه» للمفضل بن سلمة، و»كتاب رسالة في كمياء العطر» للكندي. كما أن بعض القدماء أفردوا في مصنفاتهم أبواباً وفصولاً للعطر، منهم: ابن أبي حنيفة الدينوري في كتابه «النبات»، وأبو عثمان الجاحظ في كتابه «التبصرة بالتجارة»، وابن العديم في كتاب «الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب». ومما جاء في مصنفات العرب في هذا الباب الأصل الثلاثي لصناعة العطور، فهي إما أن تكون: * نباتية توجد في صورة زيوت، تُستخرج من الأزهار والأوراق والثمار واللحاء والجذور. * سوائل كثيفة القوام تفرزها بعض الأشجار أو في هيئة صلبة. * حيوانية وتُستخدم أصولاً ومواد تثبيت للروائح الأقل والأخف خلال عملية الخلط، وتستخرج غالبًا من أعضاء بعض الحيوانات كغزال المسك (الآيل)، وحوت المن (Sperm Whale)، وقط الزباد (Cevet)، وقندس الماء (Beaver/ Cuttle Fish). * تصنيعية؛ وعلة ابتكارها عائدة إلى التكاليف المرتفعة للعطور الطبيعية. وقد اشتهرت ألمانيا حديثاً بتخليق هذه العطور من مواد كيميائية منها (الكلوروفورم، البنزين، الكحول، وثاني كبريتور الكربون...). وقد ارتبطت نهضة العرب في صناعة العطور باسمين كبيرين في التاريخ العربي هما: جابر بن حيان الذي اكتشف طرقاً لفصل المواد الكيميائية، مثل: التقطير الخالص والتبخير والترشيح، ويعقوب بن إسحاق الكندي الذي عده البعض المؤسس الحقيقي لصناعة العطور، فقد أجرى تجارب مكثفة ناجحة لدمج عطور النباتات المختلفة مع مواد وخامات أخرى، وله مخطوط قديم بعنوان «الترفق في العطر» حظي بدراسة وتحقيق سيف بن شاهين بن خلف المريخي (وزارة الثقافة والفنون والتراث قطر/ 2010)، يحتوي على عشرة أبواب: (صنعة المسك، صنعة العنبر، صنعة الزعفران، صنعة الورس، صنعة الغوالي، باب آخر، الأدهان، عمل الكافور، صنعة السك والرامك، وعمل التصعيدات). أورد فيها الكندي كيفية تحضير ما يبلغ 109 أنواع من الطيب والعطر، وفصل فيه أهم المركبات من الأعشاب والنباتات والحيوانات والمعادن، وطريقة مزجها واستخلاصها وما إلى ذلك، ما يجعل المؤلف دليلاً علمياً وعملياً في العطريات.