حيث توجه المرء في بلدان الحضارة والثقافة الاسلاميتين فهو، من دون شك، ملاق نفحات العطور في كل اسواق المنطقة، من خان الخليلي في مصر الى سوق الباعة الجائلين في كانو في نيجيريا. وأي عطر لم يعرفه العرب والمسلمون؟ إذ اشتهر فيهم العطارون الذين قد يقومون احياناً بأدوار محدودة في طبابة المرضى بما تأتي لهم من معرفة بالاعشاب والنباتات. وحيث حل الزائر في معظم ارجاء بلاد العرب والمسلمين فهو مستنشق شذى الياسمين، او دهن الورد، او عود الصندل الذي لا يزال بخوره إمارة اساسية من إمارات الكرم العربي، والضيافة وحسن الوفادة والاستقبال. ويتميز العطر في البلاد العربية والاسلامية - من جاكرتا حتى تمبكتو في ما يعرف اليوم يجمهورية مالي في القارة الافريقية - بأنه ليس مجرد شأن فردي، تنصر مهمته في تطييب البدن والهندام، ولكنه تغلغل في مناحي الحياة اليومية الاخرى فاتصل بالعادات الدينية، والطبية، والاجتماعية، واضحى جزءاً من النسيج الاجتماعي للحياة العربية، ولا يقتصر على تبادل الاحاديث الهامسة كما توحي الاعلانات التلفزيونية في الغرب، بما في ذلك الموت الذي تعد له عطور خاصة تنثر على الكفن. وربما ارتبط العصر بالعرب - خصوصاً شبه جزيرتهم - لقربهم الجغرافي من حيث اكتشف العطر واستخدم للمرة الاولى في تاريخ البشرية. وتجمع الموسوعات والمصادر التاريخية على انه اكتشف في مصر الفرعونية قبل نحو اربعة آلاف عام. خصوصاً العطر المستخلص من صمغ شجرة المر Myrrh التي تنمو في منعطف ظفار العمانية وفي بعض ارجاء الصومال واثيوبيا. ولا تزال هذه المادة تشكل نحو 7 في المئة من اي مستحضر عطري حديث، خصوصا العطور التي يكثر استخدامها في البيت الشرقي. اما ارتباط الحضارة الفرعونية بالعطور في عززه اختراع المصريين الزجاج نحو العام 1000 قبل الميلاد. وكان طبيعياً ان يخصص الاكتشاف الجديد لحفظ المستخلصات العطرية. وانتقلت تلك العادة الجديدة في مصر القديمة الى اليونان، ومنها الى بقية الحضارات التي اندثرت وبادت لتتيح الفرصة لنمو الكيانات الحضارية الحديثة التي لا تزال تسود العالم منذ بضعة قرون. تعتبر الزيوت الاساسية Essential Oils احد اهم مصادر العطور. وكان الخيط بين العطر والطبابة رفيعاً جداً منذ البداية لان القدماء لاحظوا ان معظم مصادر الزيت الطبيعي يملك خواصاً طبية وصحية وكانت دهشة حكماء مصر الفرعونية كبيرة عندما الحظوا ان المشتغلين بمهنة العطارة كانوا لا يصابون عادة بالطاعون والكوليرا، وهما الوباءان اللذان كانا اشد فتكاً بالامم البائدة. ولاحظوا ايضاً ان الحانوتيين المتخصصين في تحنيط الموتى الذين كانوا يمضون ساعات طويلة في تركيب الزيوت الاساسية وتوليفها، لا يصابون بعدوى الامراض التي تفتك بالموتى الذين يعهد اليهم بدفنهم. واسفرت الحفريات الناجحة للمقابر والمدن الفرعونية عن اكتشاف الآلاف من قوارير العطر ذات الاشكال المختلفة. واتضح ان الفراعنة كانوا يحرصون على خلط الشمع بالزيوع الاساسية العطرية. وكانوا يدركون انه قبيل حلول المساء، وعندما ترتفع الحرارة، ويذوب الشمع، فانه يتسلل بما فيه من عطر الى الكتفين والظهر ليكسب الجلد رائحة طيبة، والاهم من ذلك انه كان يضمن عدم تكاثر القمل في فروة الرأس. وتفيد المعلومات من تاريخ الفراعنة انها كانوا يستخدمون تلك الزيوت الاساسية لحماية البشرة من شدة حرارة الشمس. وهذا يعني ان الطبابة الاروماتية Aromatherapy ليست إختراعاً رأى النور قبل عقد او اثنين كما يعتقد كثيرون. وتلقف العبرانيون الذين استعبدهم الفراعنة هذه المهارات المصرية في العلاج الاروماتي بزيت العطر، وفنون صنع العطر نفسه، من سادتهم حتى حذقوها، وعادوا لينشروها في بلادهم، حيث لا تزال بعض المركبات العطرية محتفظة بسمات تكوينها الاساسي حتى اليوم. خصوصاً ما دخل فيه استخدام المسك يستخرج من الغزلان، والعنبر يعتقد انه يستخرج من بعض النواع الحيتان، والزباد الذي يستخرج من سنانير الزباد الخلوية المعروفة. من مصر الى بابل اما لبان البخور فقد استخدمه الاطباء وأطباء الاسنان والكيميائيون وخبراء مستحضرات التجميل منذ نحو العام 3000 قبل الميلاد. وكان لبان اللادي يحرق بخوراً في معابد الديانات القديمة، من الكرنك في مصر الى نينوى في بابل. وتشير المنحوتات الحجرية التي عثر فيها ضمن انقاض الحضارة السومرية الى ان البخور ونباتات تابلية واروماتية اخرى كانت تقدم قرابين للآلهة في معابدها. ويبدو من سياق التوثيق التاريخي ان السومريين عرفوا منذ نحو العام 4000 قبل الميلاد قدرة بعض الزيوت الاروماتية والنباتات العطرية على ابراء الجروح، وشفاء الأمراض. اما كلمة عطر نفسها فقد اخذت من اللاتينية Per Fumum وتعني الدخان الذي لا ينقشع. ولم تتأثر اهمية العطور على مر السنوات بسبب الحاجة المستمرة للعطر في رحلة حياة الانسان من المهد الى اللحد. وكانت الزيوت العطرية الاساسية الثلاثة الاكثر استخداماً وشيوعاً، وهي: البخور والمر والعود، تقايض في اسواق بغداد باللؤلؤ المستخرج من شط البحرين، وبالحرير في اسواق الصين البعيدة، وبالذهب في القصور الملكية في اوروبا خلال العصور الوسطى. وتمكن العرب من احتكار تجارة العطور، حتى فتحت طرق عدة لقوافلها. وكانوا في مستهل امرهم ينقلون المواد العطرية بالقوارب من موانئ جنوب الجزيرة العربية الى الهند، لتعود قواربهم محملة بالتوابل التي كانت تنتجها جزر الشرق الاقصى. وكان التجار العرب - الذين يصح ان يقال انهم كانوا مصدرين ومستوردين حسب اللغة الاقتصادية الشائعة راهناً - ينطلقون الى معظم اسواق الامبراطورية الرومانية القديمة ليبيعوا القرنفل والقرفة وغيرهما من التوابل ذات الرائحة الفواحة التي كانوا يجلبونها من الهند. ومن جزيرتهم كانوا يحملون القوافل ببضائعهم المستوردة لتنطلق الى مدن حضارات البحر الابيض المتوسط. غير ان الحروب والاضطرابات التي سادت بلاد الرافدين القديمة ارغمتهم الى التخلي عن البحر، ليفتحوا طرقاً برية لقوافلهم من ظفار في سلطنة عمان حيث تنمو شجرة اللبان اللادي، الى الشمال عبر صحراء الربع الخالي، او عبر ارض اليمن. وزادت ملكة سبأ ثروة بعدما اكتشفت ان فرض سيطرتها على طرق قوافل اللبان اللادي تدر عليها دخلاً كبيراً. وافادت مدينة البتراء عاصمة النبطيين في الاردن حالياً من مرور تلك القوافل في القرن الثالث الميلادي. اما الطريق البرية المتجهة من ظفار غرباً فقد كانت تعبر مصر حتى ميناء الاسكندرية القديم الذي كان ذات يوم اكبر مركز في العالم لتجارة الزيوت العطرية الاساسية والتوابل. ومن البتراء كانت القوافل ذاتها تخرج شمالاً صوب دمشق وحلب لتصل الى طريق الحرير الذي تسكله القوافل في رحلة ايابها من الصين. وثمة طريق برية اخرى تشق الجبال لتعبر الاناضول الى بيزنطية. التشييع ومقابلة النساء! وكانت المخاطر الجمة التي تهدد القوافل عاملاً رئيسياً من العوامل التي ضمنت استمرار ارتفاع اسعار الزيوت الاساسية واللبان اللادي، على رغم استمرار حركة التجار الآتين من الهند ليبيعوا توابلهم في الجزيرة العربية. وكانت شجرة اللباهن تتمتع بحماية شديدة، ولم يكن يسمح لاحد برعايتها سوى افراد نحو ثلاثة آلاف اسرة يقتصر عليهم وحدهم امتياز جمع صمغ اللبان الذي يشبه الدموع او القطرات على جذوع واغصان الشجرة. وكان لا يسمح بجامعي صمغ اللبان بمقابلة النساء او تشييع الجنائز اثناء موسم الحصاد، حتى يتفرغوا تماماً لمهمتهم. واضحت تلك الشجرة الساحرة سبباً في اثراء العائلات التجارية في جنوب الجزيرة العربية، خصوصاً حضرموت التي بنى كبار تجارها مدناً من الرخام، في وقت لم تكن روما تعدو ان تكون شيئاً سوى اكواخ متناثرة. ولم يكن صمغ لبان اللادي وحده مصدراً لثروة تجار جنوب الجزيرة العربية عهدذاك، اذ كانوا يتاجروت ايضاً في مواد العطارة الاخرى كالعنبر والياسمين والخزامي والليمون المجفف، وبالطبع المسك الذي يفضله معظم العرب على ما عداه من العطور الاخرى. اما دهن الورد - وهو الزيت العطري الاساسي الذي ينتج من الزهر - فتشتهر بانتاجه حالياً تركيا وبلغاريا. ومع ان الزهر شائع في معظم بلدان العالم، الا ان نحو 100 كيلوغرام من اوراقه تكفي لصنع نصف ليتر من الزيت! وأحياناً لا يشكل الزيت سوى اكثر من 0.01 في المئة من وزن الزهرة كلها. وربما كان ذلك سبب ارتفاع ثمن دهن الورد. غير ان خبراء العطور يقولون ان افضل انواع دهن الورد هو "الطائفي" الذي يصنع ويباع في اسواق مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية. ويقوم عطارون مهرة من مكةالمكرمة والمدينة المنورة بجمع اوراقه بأيديهم. أوقات محددة لعصر الغدد قد يبدو ذلك غريباً، لانه لا فرق بين هذه الزهرة او تلك. غير ان الحقيقة تبقى ان زيوت العطر الاساسية المنتجة في الجزيرة العربية تكتسب اهمية خاصة لانها تعالج اساساً بطريقة خاصة لعصر عدد بعينا لاستخراج الزيت. ولا يتم ذلك في موسم تفتح الازهار، وربما يراعى فيه ان يتم في وقت محدد من اليوم، لأن العرب عرفوا بذكائهم الفطري الخارق ان بعض النباتات، كالياسمين مثلاً، تنتج طاقتها القصوى من الزيت الاساسي عند مغيب الشمس. ولا بد من عصرها قبل هطول الندى ليلاً، او في الصباح الباكر. واذا لم يجمع الزيت الاساسي في موعده المحدد تتغير رائحته، وحين ينتصف النهار تصبح رائحته منفردة تماماً. وللحصول على أفضل النتائج، يجب استخدام الزيت العطري الاساسي مثلما يستخرج من نباته، من دون اضافة مواد كيميائية كالكحول الذي يشيع استخدامه في صنع العطور غير الطبيعية. روبما لهذا يلاحظ المرء ان منتجات بيوتات التجميل الفرنسية الكبيرة تنطوي على استخدام اكثر من 200 عنصر او مقوم في انتاج قارورة العطر التي تباع في المتاجر والصيدليات العمومية، فيما يفضل العطارون الذين تكثر متاجرهم في منطقة اهرامات الجيزة الابقاء على زيوتهم الاساسية على نقائها من دون مزج او تركيب. وأكثر اساليب استخلاص الزيت الاساسي في الوقت الراهن التقصير بالبخار، وهو اسلوب يعزى فضل اكتشافه الى صاحب القانون، الحكيم ابن سينا، الى الفضل الكبير لابن سينا الذي نقل اساليبه في استخلاص الزيت الاساسي بالتقطير بالبخار الى الاندلس، في وقت كانت اوروبا تغط في ظلام القرون الوسطى. وكان لافتاً للغربيين الذين اقتبسوا تلك الفنون والمهارات من العرب الدور الكبير الذي يلعبه العطر في الحياة اليومية للمسلمين، فهم يتعطرون قبل خروجهم لأداء صلاة الجمعة، ويتطيبون بعدما يؤدون الغسل، وتنصح الارملة بتخليل ضفائر شعرها ببخور العود بعدما تكمل عدتها. وقد لا يمر يوم من دون ان يطلق السكان البخور في بيوتهم اكثر من مرة ويندر ان يغير العربي ملابسه من دون ان يمضخها بالعطر. ومن امتع العادات العربية وضع المبخر - الذي اضحت التقنية اليابانية المتطورة تتفنن في صنعه ليعمل بالكهربا - تحت الأسرة حتى تلتصق رائحة البخور بالشراشف والملاءات والملابس الاخرى. ومن العادات العربية الاصيلة التي ترسخ في ذهن الغربي الزائر لبلاد العرب تمرير المباخر على الضيوف ليتطيبوا عندما يحين اوان مغادرتهم دار مضيفيهم. وذلك بعد ان يكونوا دعوا ضيوفهم مرتين او ثلاثاً اثناء الجلسة الى التطيب ببعض الزيوت الاساسية العطرية. وهكذا يمكن المرء ن يخلص في غير كثير عناء الى ان الطيب والعطور اضحت جزءاً لا يتجزأ من حياة العرب اليومية. حقائق معطرة ... - يصنع العطر من مواد اساسية قد تكون من اصل حيواني او نباتي او من الزيوت الاساسية التي تعتبر اهم مصادر انتاج العطور. - تصنف العطور حسب الرائحة الاقوى التي تغلب عليها، غير ان ابرز المجموعات المعروفة هي: 1 - المجموعة الزهرية Floral وتشمل روائح الياسمين والزنبق والورد والفل والغاردينيا ونحو ذلك. 2 - المجموعة التابلية Spicy وتشمل الفرنقل والفرقة وجوزة الطيب. 3 - المجموعة الخشبية Woody ومنها رائحة خشب الارز مثلاً. 4 - المجموعة العشبية Herbal ومنها رائحة البرسيم والنفل والعشب الخلوي. 5 - المجموعة الجلدية التبغية Leater-Tobacco وتغلب عليها رائحة الجلد والتبغ. - ثمة فرق كبير بين العطر وماء الكولونيا، اذ يشتمل العطر على ما يراوح بين 10 و25 في المئة من المركزات العطرية، بينما لا تتعدى النسبة 6-2 في المئة في ماء الكولونيا. ولا تتعدى النسبة ما يراوح بين 0.5 و2 في المئة في محاليل الحلاقة وماء الكولونيا المعد خصيصاً لمعالجة آثار حلاقة الذقن. - يقوم الكحول بدور كبير في صنع العطر، خصوصاً لجهة استخلاص المركزات العطرية، وتثبيت بعضها لئلا يتبخر حال تعرضه للهواء.