كتابُ «نصٌّ ونصٌّ» يصنعُ تجربةً إبداعيةً جديدةً، ويقدمُ شكلاً غيرَ مألوفٍ عبرَ جمعهِ بين النصِ السردي والنصِ البصري، في مقابلةٍ يحكمها السردُ والتشكيلُ. جاءت لغةُ ناصر الموسى في هذا الكتابِ بسيطةً غلبتْ عليها الفصحى، وإنْ لم تخلُ من سطوة العامية. كما جاءت الألفاظ سهلةً بعيدة عن التكلف، وجاءت الصورُ التشكيليةُ في غالبها عاكسةً للنص السردي، ومخالفةً له في بعضها الآخر، ولم تكن جميعُ النصوصِ السرديةِ مرفودةً بنصٍ بصريٍ، بل خلا بعضها من الرسم والتشكيل، يبدو لي من الوهلة الأولى أنّ الكتاب قد كُتب للمرأة وبها ومنها؛ فأولُّ ما يواجهنا هو المرأةُ حاضرةً على مغلف الكتاب، ثم عندما نلتقي الإهداءَ نجده موجهاً بشوقٍ إليها: «إليكِ يالجوهرةُ بَوْحي وحرفي»، ولا نعلمُ هل الجوهرةُ هنا اسمٌ أم وصفٌ؟ وفي الإهداء غاب التشكيلُ وحضر الحرفُ، ولا نعلمُ لماذا؟ علماً أنّ الكتابَ قائمٌ في غالبه على النصين معاً. وللبحث عن تمظهراتِ المرأةِ في كتاب «نصٌّ ونصٌّ»، نجدها تحضر في عدةِ صورٍ، منها: المرأةُ.. فاعلةٌ: كانت المرأة لدى ناصر الموسى -كما كانت أمنا حواء- هي الفاعلُ البادئ، وهي الباعثُ على الحياة، هي السؤالُ ببعثه للمعرفةِ والحياةِ، للشكِ والشقاءِ، لليقينِ والنعيمِ، وهي الجوابُ والمُنتهى؛ فالساردُ الراسمُ يسير منها إليها، عمقٌ فلسفيٌ احتوى البدايةَ والنهايةَ في صورةِ المرأةِ. يقول: «كنتِ ولا زلتِ أنتِ أنتِ السؤالَ؟ وأنتِ أنتِ أنتِ الجوابَ». بل إنّ المرأةَ جاءت ملهمةً حافزةً، تُحركُ المشاعرَ، وتُشعلُ الجوارحَ، يقول: «نظرةٌ من عينيكِ تكفي لإشعالِ حروفٍ كنتُ قد جمعتُها في ذاكرتي». وتأتي رمزية المرأة لدى ناصر الموسى عبر نصه البصري، في صورةِ نباتٍ باسقٍ منغرسٍ في عمقِ الأرضِ؛ لينطلقَ شامخاً إلى الفضاءِ المكاني متعالياً في غير حِدةٍ أو جمودٍ، يحملُ السلامَ الذي تمثله الحمامةُ، ويصطبغُ بالنقاءِ المتمثلِ في بياضِ الوجهِ وهدوءِ العينينِ، وينتصبُ بالعطاءِ المتمثلِ في الورودِ الممتزجةِ في تكوينهِ، والوجوهِ النابتةِ في أحشاءِ بنائهِ المنتصبِ، كما نجدُ العطاءَ في أطرافهِ الممدودةِ للآخر. جاءت المرأةُ رمزاً للخِصْبِ والنّماءِ، هي البدايةُ وهي النهايةُ. المرأةُ.. رمزُ سلامٍ: حيث ارتبطت المرأة منذ اللوحة البصرية الأولى بالسلام، حيث الحمام يلامس رأسها وكأنه ينقل السلام منها إليها، ليمثُل اطمئناناً في عيونها، وانشراحاً في وجهها. كما ارتبطت المرأة بصورة المسجد، عاكسةً ثيمة الالتزام والاعتقاد والرسوخ، وكذلك قيمة الالتزام بالسلام والنقاء والبياض، والاعتقاد الجازم بالحب والعطاء. وهكذا يرغمنا الموسى على السير منذ البداية في ركابه تجاه عوالم المرأة الغامضة، الموحيةِ بالسلام والنقاء، فهل يُتمُّ الموسى سيره؟ وهل يستطيع تحمُّلَ مجاهيله؟ المرأة.. قاسية: على الرغم من الحب.. على الرغم من الوله.. على الرغم من العشق، إلا أنّ المرأة في نظر ناصر الموسى متعاليةٌ، متكبرةٌ، بل متجبرةٌ قاسيةٌ، يقول: «آخرون قد حاولوا الإبحار قبلي، فكان مصيرهم بقايا وحطامٌ وقاع، قاسيةٌ أنتِ»، ويقول في موضع آخر: «يا من تركتِنِي مشتاقاً إليكِ، والشوقُ نارٌ وحرقةٌ، آهٍ ما أقساكِ»، ويقول في موضع ثالث: «آهٍ ما أقساكِ،لا أُطيقُ بُعدكِ وجفاكِ يا آسري». وهذا هو التناقض الذي كان يعيشه، يشتكي من القسوةِ، والتجاهلِ، ولا يقوى على الفراقِ. فرغم كلِّ المخاطرِ والأهوالِ التي قد يتعرضُ لها إلا أنه لم يتهيبْ التجربةَ، بل يصرُ على الإقدامِ، وكأنّ الحبَ قد أغشى بصيرته، فالحبُ حسبَ فلسفته هو سبيلهُ للحياة، وللشعورِ بالوجودِ، مهما كان مُرّاً قاسياً، يقول: «أنتِ ساحرةٌ ماهرةٌ مدللةٌ، جمعتِ كلَّ الصفاتِ، كلَّ السيئاتِ، ومع ذلك أُحبكِ». وفي المقابل نجدُ النصَ البصريَ يتشكلُ من امرأةٍ صامتةِ العينينِ، كثيفةِ الحاجبينِ، تُشيحُ بنظرها عمّن أمامَها، ويبدو من حركةِ شفتيها وامتدادِ ذقنِها أنها تحاولُ ألاَّ تتواصلَ مع مقابلِها، وقد كُسيتْ اللوحةُ بورودَ متفرقةٍ بعيدةٍ عن الالتحامِ بجسدِ المرأةِ، وكأنها نافرةٌ منها، والطيورُ جافلةٌ عنها، والسحبُ قد تبددتْ من فوق رأسها. وهنا تتوحدُ الرؤيةُ بين النصين، السرديِ والبصريِ. أخيراً.. يموتُ الحب.. يبدو أنّ الموسى قد أوقفَ مراكبَ حبهِ، بل أحرقَ أشرعتها، وشرعَ -إنْ احتملَ- في عبورِ المسافةِ بين الضفتين. حبٌ يقابله صدودٌ، وشوقٌ يواجهه برودٌ، ومع كثرةِ الطعناتِ، وتوالي الخيباتِ، كان الخُبُوُّ والانكفاءُ، وربما التحدي، يقول: «وتسأليني عن الحبِ الذي أضعتِهِ، أما علمتي أنكِ التي تركتِهِ، فلا عادَ القلبُ يهواكِ، ولا تملكينه». هل نحنُ أمامَ عتابٍ أم تخلٍّ ؟ أم نحنُ أمامَ حالةٍ من الالتباسِ أورثها حبٌ عميقٌ لامسَ شغافَ القلبِ. هكذا كانت المرأةُ لدى ناصرِ الموسى في كتابه «نصٌّ ونصٌّ»، تترنحُ بين الحبِ والعطاءِ والسلامِ، وتتقلبُ في نظره قسوةً وتخلٍ وسقوطٍ.