لم يكن النقد وفضاءاته الرحبة بمنأى عن شهر الصوم.. رمضان الملهم والمحرض على الإبداع وجمالية التلقي، ففي ورقة نقدية عن العتبات الافتتاحية في التهنئة برمضان تناول الدكتور فهد البكر في ورقته مقاربة سيميائية تلك العتبات، مؤكداً أن شعراء العصر الحديث كانوا أكثر اهتماماً بهذه العتبة كعبد القدوس الأنصاري، ومحمد حسن فقي، وحسين عرب، ومحمد إبراهيم جدع، وأحمد سالم باعطب، وغيرهم. وأضاف البكر ليس غريباً أن نجد لهذه العتبة امتداداً من الاهتمام عند الشعراء المعاصرين اليوم، وبخاصة عند أولئك الشعراء الذين تمرّسوا في الإبداع من خلال صفحاتهم التواصلية، وكان من ذلك اعتناؤهم باستقبال هذا الشهر الفضيل من خلالِ قصائدَ مميزة، كشف عنها وسمُ (رمضان شعراً) الذي أطلقه هؤلاء المبدعون في أوائل رمضان، ونثروا فيه الكثير من دلالات الاحتفاء والاستقبال، فشكّلوا بذلك عتبةً من عتبات التهنئة والاستفتاح. ولفت البكر أن مصطلح العتبة هنا؛ مصطلح نقدي ذو ارتباط سردي، وأصبح اليوم يطلق على كل ما يشير إلى محيط النص، أو ما يحاذيه، وتجوّزاً خرجنا من الجانب المادي الورقي إلى الفضاء الإلكتروني، فاستعرنا دلالة (التهنئة) بدخول رمضان من هذا الباب، بوصف هذه العتبةِ خطاباً افتتاحياً، أو نصاً استهلالياً يقدمه الشعراء احتفاءً بهذا الشهر. ولئن كان (رمضان) في حدّ ذاته عنواناً، فإن (التهنئة) بدخوله هي بمنزلة التقديم له، أو الاستهلال (خطاب تقديمي) بل إن التهنئة ربما ضارعت بعض النصوص الموازية ك (الإهداء) مثلاً من حيث المنزلة والقيمة؛ ذلك أن المهدي يحتفي بالمهدى إليه، كما أن المُهنِّئَ يحتفي بالمُهَنَّى، وكلاهما – أي التهنئة والإهداء - مدعاةٌ للسرور، والابتهاج؛ لذا قال القلقشندي في صبح الأعشى عن كُتُبِ التهاني إنها: «من ضروب الكتابة الجليلة النفيسة، لما في التهنئة البليغة من الإفصاح بقدر النعمة، والإبانة عن موقع الموهبة، وتضاعفِ السرور بالعطية، وأغراضُها ومعانيها متشعبةٌ لا تقف عند حدّ» وأشار الدكتور البكر إلى أن التهنئة برمضانَ تعد أمراً لافتاً للانتباه لدى الشعراء، وبخاصةٍ عند مجايلينا في قنوات التواصل الاجتماعي، فَتَحْت وسم (رمضان شِعْرَاً) بدت التهنئةُ عتبةً جليّةً للاستقبال والاستهلال، من هنا رأينا إثارتها؛ لأنها تمثل لوناً من ألوان الاستبشار والفرح بهذا الشهر، وقد كشفت هذه العتبة عن معاني البهجة والسعادة التي يحاول الشاعر نقلها إلى نفس المخاطب. وانطلاقاً من القاعدة السيميائية «مادةُ المضمون تُظهِرُ شكلَ المضمون» يمكننا تلمس مظاهر هذه العتبة ودلالاتها من خلال الاستقبال والترحيب: حيث يُظهِرُ الشاعرُ فيه هذا الشهرَ الكريمَ بأنه ضيفٌ مقبلٌ يحطّ رحاله؛ ولهذا يكثّف الشاعر أمارات الاستبشار والفرح بهذا الضيف، كما تقول (فرح الزهراني) مثلا: ضيفٌ يحطُّ رِحَالَه في خِفَّةٍ ورفيقُه في سَيرِهِ الإحسانُ رمضانُ زادُ الروحِ ما أحلاه مِن زادٍ، ولذّةٍ طعمه القرآنُ وأجمل من ذلك أن يستعير الشعراء لهلال رمضانَ أوصافاً جميلةً، فهو ليس بضيف عادي، لكنه في الحقيقة ضيف عزيز يسكن الوجدان، ويرتاح في الفؤاد، بل إنه ضيف خفيف يمسحُ الآهاتِ كما يقول الشاعر يوسف جابر مدخلي: رمضانُ وارتاحَ الهلالُ بخافقي وأتى خفيفاً يمسحُ الآهاتِ ومما يبيّن فرحَ الشعراء وشوقَهم إلى رمضانَ تركيزُهم على صورة القدوم والإقبال، وهي صورة تستحقُ التأمل، وبخاصةٍ عندما يقوم الشاعرُ بتكثيف الجانب الاستعاري لهذه الصورة، كما فعل (عزّام البدراني) مثلاً حينما استعار صورةَ غيمةٍ مقبلةٍ على الناس، وقد عَمَّهُم خيرها، وغسلتْ أرجاءَهم، يقول مثلاً: أقبلتَ يا خيرَ الشهورِ كغيمةٍ هتّانُها فَيضٌ من الرحماتِ أقبلتَ تغسلُ بالنقاءِ قلوبَنا من بعد أن تاهت على الزّلاتِ. والتطبيب والمعالجة: وقد كتب أحمد اللهيب قصيدة أدرجها ضمن وسم (رمضان شعراً) حيث يقول فيها: رمضانُ يا شهراً يداعبُنا بالخير حتى يَعجَزَ الكَلِمُ قد جئتَ والأرواحُ في أَلَمٍ ودنوتَ حتى غادرَ الألمُ الضياء والنور: ويقول محمود الحليبي في قصيدة منها: انشُر ضياءَك يا أميرَ شهورِنا وامسح بجودكَ عتمةَ العصيانِ يا روعة الأيامِ بينَ يديكَ كم في حضنها من متعةٍ وحَنانِ الاسترجاع والاستذكار: ويقول جمال الحمداء في ذلك: رمضانُ نبعُ الذكرياتِ توهّجتْ آهٍ لذكراهُم بنورِ عيوني في كلِّ طيفٍ من طيوفِهُمُ اكتوتْ عيني بدمعٍ دائمٍ وسَخينِ الأُنس والبشرى: ونجد عند سعد الدريهم في قصيدته (رمضانُ أقبل) حيث يقول: رمضانُ شهرُ الله أكرمنا به والصومُ فيه شريعةُ الرحمنِ طيفٌ من الأُنسِ الجميلِ يحيطُنا في ظل شهر الخير والقرآنِ ضيفٌ كريمٌ جاء يحدو رَكْبَه في كفه بُشرى وعفوٌ دانِ ويركز بندر مباركي» كقوله من قصيدة تفعيلة: قادمٌ وكلي حنينٌ والمعاني بوسط روحي ترفرفُ هتفتُ عندما أتيتَ فقل لي: كيف لا تنتشي؟ وبالسعدِ تهتِفُ كلما جئتَ يا حبيبي وأرخى سمعهُ الكونُ والأغاريدُ تعزِفُ بين بشرى وبين ذكرى دموعٌ يا حبيب الفؤادِ بالشوقِ تذرِفُ ويشير بعضهم إلى تلك المظاهر التي ترتبط بالأنس والبشرى كاستقبال هذا الشهر بالورود، كما في قول إحدى الشواعر التي اكتفت باسمها فقط (أمل) تقول: ضيفٌ عزيزٌ لاحَ طيفُ سنائه ولأجله كل الورودِ سأنتقي ضيفٌ وكم طالَ انتظار قدومه رمضانُ يا خيرَ الشهور أنلتقي؟ الحبُّ والمحبوب: ويقول (عزّام البدراني): لاحَتْ تباشيرُ القدومِ وجاءنا * من بعد ما دار الزمانُ - حبيبُ أَنعِمْ بِحُبٌّ جاءنا ونفوسُنا كادت من الشوقِ العظيمِ تذوبُ ويؤكد عبدالله الغانم أيضاً هذا المعنى في جعله رمضانَ حبيباً: رمضانُ أنتَ حبيبُنا فَلْتُقْبِلنْ بالعزِّ والتمكينِ والبَرَكاتِ كما يقول أحمد اللهيب مركّزاً على المعنى نفسه: يا أيها الشهر الكريمُ ألا رِفقاً بقلبٍ عاده نَدَمُ أنتَ الحبيبُ إلى الحبيبِ كما بيديكَ كلُ الخيرِ يرتَسِمُ Your browser does not support the video tag.