للمكتبات مع أصحابها قصصٌ ومواقف، وأيضاً طرائف وأشجان تستحق أن تروى، "الرياض" تزور مكتبات مجموعة من المثقفين، تستحث ذاكرة البدايات، وتتبع شغف جمع أثمن الممتلكات، ومراحل تكوين المكتبات.. في هذا الحوار الكُتبي نستضيف الكاتبة الروائية أ. أسماء بوخمسين للحديث حول مكتبتها التي تحتوي على العديد من كتب الشّعر والأدب، والسير الذاتية، وكُتب التاريخ، والسياسة، كما تشتمل على كتب أدب الأطفال، وتطوير الذات، وعدد من المجلات والجرائد القديمة، وغيرها من شتى أصناف كتب الفنون المختلفة. * في أيِّ مرحلة من العمر تعرَّفتِ على الكتاب؟ * القراءة عالم ساحر، له بريق يخطف الأبصار، ويذهل العقول. مَن استطاع أن يخوض ضفاف شواطئه صغيراً، ويغوص بحاره كبيراً، أحرز من المتعة والمنفعة الشيء الكثير. متى بدأت القراءة؟ لا أعي وجودي بدون قراءة، منذ أن اكتشفت أنَّ جمال الحرف، وترابط الكلمات، يصنع جملاً لها معانٍ ملونة؛ تتقافز ببهجة، تنثر السّعادة وتثير الدهشة، أو توقد الأسى وتدمع العينين، حتى عشقت الكتاب. بدأت بقراءة قصص ومجلات الأطفال المصورة؛ مثل ميكي ماوس، وسندباد' ما أن استطعت أن أفك الحرف. بعدها قفزت في القراءة إلى القصص العالمية المترجمة المبسطة، فقرأت بائعة الخبز، وأحدب نوتردام.. وفي نهاية المرحلة الابتدائية، بدأت بقراءة كل ما تقع عليه يداي من مجلات وجرائد وكتب، سواء كانت عربية أو مترجمة، وإن لم أجدها أستعيرها، ولن أقول إني استوعبت كل ما قرأته في تلك السنوات المبكرة، من أمهات الكُتب، وإن آمنت أن كل كتاب فريد بما يختزن بين دفتيه، ينبض بالحياة، ونخرج منه بحصيلة من المعرفة، تقود إلى نضج وحكمة. في الفترة الجامعية تركزت قراءاتي في علم الاجتماع وعلم النفس؛ فكان بصحبتي كُتب اميل دور كايم. وابن خلدون. واوغست كونت. عدت بعدها لكُتب التربية والتعليم والخاصة بالأمومة؛ فكان كتاب الدكتور سبوك معي. بعد التفرغ من مسؤوليات العمل وتربية الأطفال، كانت الكُتب في تنوع مواضيعها، وتباين عقول مؤلفيها تنتظرني بشوق. وبتوفر وسائل التقنية سهل الوصول إلى الكتاب أينما كان. * هل تستطيعين تحديد بعض بدايات تأسيس مكتبتكِ المنزليَّة؟ * ولدت مكتبتي الخاصة رفاً صغيراً، تقف عليه الكُتب بأدب وانتظام، أعيد تصفيفها كلما انحنت على بعضها، أرتبها وأرقمها بنفسي، أعاملها باحترام ومحبة، فقد نشأت في بيت يعامل الكتاب بإجلال، ويوده كصديق، بدأت مكتبتي الصغيرة تنمو.. وفاضت على الأرفف، وأصبحت مكتبة حقيقية في دولاب جميل، ترقد آمنة مبجّلة، شحيحة في إعارتها، ولست خجولة في أحقية استردادها، وكنت أعتبر أجمل هداياي، كتاباً. وانتقلت مكتبتي معي في مساكني، وتشعبت مواضيعها. * ماذا عن معارض الكُتب، ودورها في إثراء مكتبتك؟ * معارض الكتاب لها دور كبير في ترسيخ ثقافة القراءة، وسهولة الحصول على الكتاب المرغوب، اقتنيت بعض الموسوعات، بأسعار مناسبة من هذه المعارض، وإن كانت بعض دور النشر تبالغ في سعرها، مما يمنع البعض في اقتناء ما يودون. * ما أبرز المنعطفات التي رافقت نموَّ مكتبتكِ الشَّخصيَّة؟ * إيمانًا مني بأهمية الكتاب، وبأنه يجب أن يكون في متناول جميع أفراد الأسرة نقلت مكتبتي، من غرفة مغلقة خاصة بي، إلى مكان مفتوح فسيح في منزلي، تقع عليه أعين وعقول ساكنيه. * حدثينا عن أوائل الكُتب التي دخلت مكتبتك؟ * تربعت رواية «كفاح طيبة» تأليف نجيب محفوظ، على رف المكتبة كأول كتاب أقتنيه، ليزاحم مجموعة قصص الأطفال، والتي استكانت في زاوية، وما زلت أحتفظ بهذه النسخة، ثم ابتعت مجموعة من أشعار بدر شاكر السياب، والكثير من كُتب الأشعار. لديّ نسخة من جريدة «الخليج العربي»، والتي كانت تصدر من المنطقة الشرقية، وكذلك أعداد من مجلة «العربي» الكويتية. لديّ الكثير من الكتب المهداة من قبل مؤلفيها. وهذه الكُتب لها منزلة خاصة في نفسي. * ما أطرف المواقف التي حصلت لكِ في البحث عن الكُتب؟ * أطرف المواقف التي حصلت لي في البحث عن الكُتب، كنت في معرض الكتاب في المنامة بالبحرين، وسألت عن رواية «غاتسبي العظيم» للكاتب ف.سكوت فيتزجيرالد، فوجئت بصاحب الدار، يلتفت يميناً ويساراً بريبة، ثم يمطرني بأسئلة، وعندما أفصحت أني عرفت العنوان من إحدى الصحف، يقول: سأحضره انتظري، ويغيب طويلاً، ويعود بكتاب مغلّف، لم أكن أعلم أنه ممنوع تداوله، خفت، ورفضت استلامه، لأضحك على نفسي بعد حين، عندما علمت من صديقة، أن هذا البائع يدعي ذلك لكل زبون يقصده للمرة الأولى، ليبالغ في ثمن الكتاب، لأنه قدم لك خدمة، وإنَّ هذا الكتاب نادر. * ما أطرف العناوين الموجودة في مكتبك؟ * «حماري قال لي» تأليف توفيق الحكيم الطبعة الأولى صدرت عام 1945 م. * بما أنكِ مُهتمة بالكُتب ولديكِ مكتبة خاصة.. ما أبرز الكُتب التي تحرصين على قراءتها؟ * أقرأ الأدب بجميع أشكاله، في الوقت الحاضر القصة والرواية، هي متسيدة المسرح، أقرأ الكثير من الروايات والنقد الأدبي، وما تجود به العقول النيّرة. * كم بلغ عدد مؤلفاتك حتى الآن؟ ومتى صدر لك أول كتاب وما هو؟ * قمت بتأليف ونشر (19) قصة للأطفال بالتعاون مع إحدى المدارس الأهلية ضمن برنامج تعليم القراءة. كما صدرت لي مؤخراً قصة «المُهْر سالم» موجهة للأطفال المرضى بالسرطان، تحكي عن مشاعر الطفل المصاب أثناء فترة العلاج وتجيب على بعض تساؤلاته. روايتي الأولى «السِّدرة» صدرت 2021 عن مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع، تدور أحداث الرواية في واحة الأحساء، في بداية القرن العشرين، يتنقل أبطالها بين الهفوف والهند والأهوار في العراق، تصور الحياة الاجتماعية والثقافية في تلك الفترة، في ظل شيء من الواقعية السحرية. هي مزيج من شعر وأهازيج وعشق وانتقام. من رأيي تستحق القراءة. * ماذا تُفضلين.. المكتبة الإلكترونية أم المكتبة الرقمية، وما السبب؟ * قال الله (اقرأ). في هذه الكلمة المُضيئة، أمر للإنسان بالتدوين، لأنه الأصل في تراكم المعارف الإنسانية، ولن تكون قراءة إلا إن وجدت الكلمة المكتوبة، بدءاً من كتابتها على جُدُر بأحرف مسمارية، أو على ألواح وجلود، تطوراً إلى أوراق منسوخة باليد، وما رافق ذلك من ندرة الحصول عليها. لكننا أوتينا حظاً كبيراً، لنجد الفكر الإنساني، في كُتب مطبوعة في متناولنا، نقرؤها ونعيش حيوات من كتبوها، كما يقول عرّاب القراءة البرتو مانوغويل: «أحب التيه في عقول الآخرين». للقراءة الورقية مزاياها، سفر بين يديك هو عقل متأجّج، تحس ثقله وتلامس أوراقه، تضع الفاصل عندما تغلقه، لتجده ينتظرك بصبر، تخط بقلمك ما تشاء على هوامشه، أو تطوي صفحته، وتألف تغضن أوراقه، وتخضبه بقطرات قهوتك؛ ما أجمل ذلك!! أما القراءة الإلكترونية فهي فانوس علاء الدين السحري؛ بنقرة إصبع يحضر ما خطّه الإنسان عبر العصور على شاشة وضّاءة أمامك. أيهما أفضل؟ وهل يستطيع المرء أن يفاضل بين يديه؟ أيهما أجمل وأطوَع!. * حدثينا أ. أسماء عن تاريخ المكتبات بشكل عام؟ * المكتبة مستودع الفكر الإنساني، في حضرَتها المقدسة الجمال والمعرفة معاً. وعند الحديث عن المكتبات؛ تبرق شذرات إضاءة عن أولى المكتبات العامة في التاريخ، والتي شيدت في الشرق القديم وبلاد الرافدين، ثم مكتبة الإسكندرية وبيت الحكمة ومكتبة القرويين أو خزانة القرويين كما يسميها الفاسيون.. حوت القوانين والتشريعات والمخطوطات أولاً ثم كتب الحكمة والطب والفلسفة والعلوم، المحظوظ مَن وصل إليها، لكننا المُنعمون، الذين منّ الله عليهم، بأن ملّكَنا مكتبات خاصة، نمدُ يدنا لنتصفح عقولاً نابضة.. أليس هذا من نعم الله!. * هل مكتبتك متخصصة أو متنوّعة؟ * مكتبتي متلونة، كأزهار البساتين.. وعندما فكرت في سؤالك، وجدت أن كل مرحلة من حياتي، تركزت على قراءات معينة؛ من شعر، وسير ذاتية، وتاريخ، وسياسة، وأدب أطفال، وتطوير ذات، وأدب. * هل يوجد من قراءاتك كُتب لا تزال عالقة في الذهن؟ * كثير من الكُتب المقروءة تبقى ذكراها منغرسة في الذاكرة، كالنجوم الساطعة فمحلياً «البحريات» الكاتبة المتألقة أميمة الخميس، «ساق الغراب» للأديب يحيى آم قاسم، «القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة» للمفكر د. عبدالله الغذّامي، «الأيام» للأديب الدكتور لطه حسين، «الاستشراق» ادوارد سعيد، «تاريخ القراءة « البرتو مانغويل، «الحرافيش»نجيب محفوظ، «تاريخ الأديان» هوستن سميث، «لمحات من تاريخ العالم» جواهر لال نهرو، وهنالك الكثير الكثير. * ما رسالتُكِ التي توجِّهينها لكلِّ من يملك مكتبة خاصَّة؟ * من يملك مكتبة، يملك عقولاً استفاد منها، حبذا مشاركتها مع الآخرين، بإهدائها للمكتبات المتخصصة، أو العامة للاستفادة منها، نصيحة للآخرين. وأقول بخجل لا أستطيع أن أطبقها على نفسي. فكتبي أغلى جواهري. * ما القراءة بنظرك؟ * القراءة.. إيماناً مني بدور القراءة في خدمة المجتمع، كونت أربع مجموعات قرائية من الصديقات، تحت اسم «شهرزاد» نقرأ كتاباً أدبياً كل شهر ونناقشه. نصيحة للزوجين الجديدين في مرحلة تجهيز بيت العروسين بالأمتعة من كنبات وأَسِرة وتلفاز.. من الضرورة أن يكون من ضمنها مكتبة، تنقل إليها كُتب الزوجين الشابين، وإن كانت يسيرة، تكون نواة لمكتبة زاخرة مستقبلاً. وفي الوقت التي تبدأ فيه الأم الشابة، في تجهيز أثاث طفلها قبل ولادته، أن تجعل ركناً خاصاً لمكتبته، للكًتب باللغة العربية نصيب وافر فيها؛ بذلك نزرع حُبّ القراءة من الصغر، ونشجع النشء على القراءة باللغة العربية، فهي السبيل للحفاظ على هويتنا. * كلمة أخيرة؟ * الكتاب كما قال أحمد شوقي :»كُلَّمَا أَخْلَقْتَهُ جَدَّدَنِي.. وَكَسَانِي مِنْ حِلى الْفَضْلِ ثِيَاباً» القراءة رحلة ممتعة تنقلك لعوالم شتى، بين البراري والسفوح، وفي أعماق البحار وعلى قمم الأشجار، تذوق فيها مرارة الظلم والقسوة، وتتماهى مع ضحكة طفل عَذبة، وتشهق اندهاشاً من عجائب البشر، وغرائب خلق الله العظيم، وتعيش عمرك بألف عمر وعمر، وألف عقل وعقل.. وصدق الله العظيم حين قال: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم) فالله سبحانه وتعالى الأكرم؛ لأنه علمنا بالقلم والقراءة. جانب آخر من المكتبة