تثير اهتمامي في موسم الشتاء القراءات التي يمكن أن تضيف لهذا الفصل دفئًا وانسجامًا، وما يمكن أن يُصنف بأدب المدفأة الذي يُطلق على الروايات الطويلة، والكتب التي تُقرأ أمام المدفأة في الليالي الشتوية بِصُحبة المشروبات الدافئة. اخترت أن أقرأ في ظل هذه الأجواء، روايتي (الجبال الثمانية، وفتى الجبل) للكاتب الإيطالي باولو كونيّتي، والصادرة عن دار الخيال اللبنانية، وترجمة د. أماني حبشي. في حين أن لكل رواية مكان رئيس يمثل بُعدًا وفضاءً تدور فيه الأحداث، تمحورت تفاصيل الروايتين بشكل رئيس حول الجبال، مصوّرةً طقس الشتاء، وأجواء البرودة حتى مع تنوع الفصول، المغامرات ورحلات الصعود إلى القمم، التحديات أمام الثلوج المتراكمة على أطراف الجبال، وأسلوب الحياة القائم على ذلك كله. ما بين تكوين الأسرة الذي يبدأ بالزواج، أو تفكك بعضها، الإنجاب، أو الوفاة، تكوين الصداقات، أو العيش في وحدة. حياة اجتماعية وعلاقات عائلية تبدأ في الجبال، وقد تنتهي فيها، أو بسببها. حتى علاقة الإنسان بالمكان، هروبه إليه، أو منه، وجوده في الأعلى بمفرده، أو مع القلّة، عوضًا عن الحياة في (العالم السفلي) كما في أحد أوصاف الكاتب لحياة المدينة، كل ذلك يظهر في حالات عميقة. جاءت رواية الجبال الثمانية في تفصيل لحياة الأب الصامت الصلب الشجاع الذي اعتاد صعود الجبال رغم صعوبة الطقس، وشدة الثلوج، مصطحبًا ابنه (بيترو)، وصديقه (برونو) في أحيان أخرى لجبال الألب، ثم أصبحا فيما بعد يخوضا غمار التحدي أمام نشاط تسلق الجبال، وقضاء الأيام في الكوخ الذي ورثه الابن بيترو من والده. رغبة الابن في التحرر من خطى والده والانطلاق لشق طرق السفر والتنقل عبر الدول، باحثًا عن ذاته، مكتشفًا رغباته، والحياة التي يمضيها ما بين ذهاب وعودة للديار. أما رواية فتى الجبل، فإن صوت الكاتب يعلو في سرد التفاصيل بشكل شخصي من خلالها، وبعد أن مضت ثلاثون عامًا، لابن المدينة الذي عاش طفولته «في شقّة وكبر في حيّ لم يكن بإمكانه أن ينزل إلى الردهة أو الشارع، مثّل الجبل الفكرة المطلقة عن الحرية». لذلك اختار أن يترك ميلانو ليتخذ من الكوخ الجبلي مكان عزلة له، محاولًا العودة إلى ذاته، ومواجهة ضعفه وانهزامه وألمه، مستمعًا إلى صوت أفكاره، وممارسة الكتابة مرة أخرى بعد الانقطاع، والعيش أمام الطبيعة والتأمل فيها. وفي كل فصل من الرواية أبدع الرسام الإيطالي آليساندرو سانّا برسومات معبرة عن الأحداث. ما بين الروايتين برع كونيّتي في تفصيل مشاهد واقعية حيّة للطبيعة، يمكن الشعور بها وتصورها، ووصف تفاعلات الإنسان وانسجامه مع بني جنسه، وطبيعة أرضه، وقدرته على الاستفادة مما يحيط به من كائنات حية، مهيئ لنفسه الظروف الجيدة التي تساعده على خوض تجاربه، واستمرار حياته، تاركًا خلفه أثر ملموس فيمن اشترك معه في ذات المغامرة بتقديم المساعدة، أو ذكرى حيّة تمثّلت في عبارة كُتبت في أوراق مخبأة بين الصخور، أو داخل الصناديق التي وضعها الهواة في أعالي الجبال، مشيرة إلى أن فلان قد مرّ من هنا.