يكشف باولو كونيتي عبر بطله بيترو عن سر الجبال الثمانية وما ترمز إليه، وذلك بعد أن يلتقي شيخاً آسيوياً من نيبال، يحكي له عن الجبال الثمانية. يقول لبيترو بأنه يطوف حولها. يرسم له دائرة في الرمال، ثم بداخل الدائرة يرسم قطرها، ثم قطراً آخر عمودياً على الأول، ثم ثالثاً ورابعاً من خلال النقطة المركزية، وبالتالي رسم عجلة ذات ثمانية أشعة. وذكر له أن التصميم في ثقافة الماندالا. ويقولون في ثقافتهم بأنه في مركز العالم يوجد جبل شاهق الارتفاع، يسمى السوميرو، وحول السوميرو توجد ثمانية جبال وثمانية بحار، ويؤكد له أن هذا هو العالم بالنسبة إليهم. (الماندالا) هي مجموعة من الرموز في الحضارة الهندية القديمة، استخدمت لتعبر عن صورة الكون، وهي في اللغة السنسكريتية القديمة تعني الدائرة، وكذلك هي رسم طقوسي يمارسه الرهبان ويقوم على النقش الدقيق المتوازن، ويمكن تنفيذه بعدد من الأساليب والوسائل، مثل الرسم على الجدران أو المخطوطات أو الأحجار، وكذلك عبر النحت على الخشب، وفي الآونة الأخيرة؛ غادرت الماندالا مربعها الطقسي، وتحولت إلى فن إبداعي مستقل، إذ صارت تحتل مكانتها وسط الفنون التشكيلية. قسم باولو كونيتي روايته إلى ثلاثة أجزاء: «جبل الطفولة» و»منزل المصالحة» و»صديق في الشتاء». وكل جزء منها يتألف من أربعة فصول. ففي جبل الطفولة يتحدث عن الأصياف التي قضاها في القرية بصحبة برونو، وفي الجزء الثاني يتحدث عن البيت الصغير الذي تم بناؤه في أعالي الألب، وفي الجزء الثالث يقضيان الشتاء معاً، وقد اقترب الاثنان من الأربعين وبات كل منهما يحمل الكثير من الذكريات للآخر. قد تبدو الرواية في ظاهرها عن الجبال والطبيعة، ولكنها في حقيقة الأمر تدور حول العلاقات وترابطها وتفككها. تبدأ الحكاية من رابطة العائلة، علاقة الابن بأبيه، ثم الصديق بصديقه، وتنتهي بعلاقة الفرد بالمكان. ويحتل الأب في حياته وبعد موته حيزاً لا يستهان به من الرواية. حين يتحدث إلى ابنه يبدو حديثه كالألغاز، حتى إن بيترو يطرق رأسه مفكراً قبل أن يجيب مخافة أن يخطئ، وهو الذي يعيش في المدينة ويحلم طوال الوقت بصعود الجبال التي يعلق خرائطها على الجدران. يصعد الجبال كما لو أن ثأراً قديماً بينه وبينها. فما إن يصل إلى القمة حتى يزهد بها وينحدر مسرعاً. ولذلك يقول باولو كونيتي في افتتاحية روايته: «كانت لأبي طريقته لتسلق الجبل. كانت طريقته تميل إلى التأمل، كلها صلابة وشجاعة. فهو يصعد من دون أن يعاير القوى، دائماً في سباق مع شخص أو شيء ما، وحيثما يبدو له المعبر طويلاً كان يقطعه من أكثر الخطوط انحداراً. كان ممنوعاً معه التوقف، والشكوى بسبب الجوع أو التعب أو البرد، ولكن يمكن للمرء أن يغني أغنيةً جميلةً، وخصوصاً أسفل العاصفة أو الضباب الكثيف، ويمكنه أن يطلق الصيحات، وأن يلقي بنفسه في أكوام الثلج». ليست الجبال هي فقط حيث القمم، والجليد والمغامرات ولكنها أيضاً أسلوب حياة، متى يترك المرء مسافة، متى يتراجع، متى يتقدم المسير ومتى يلتزم الصمت. بداية الرواية، حكاية عن الماضي، أو مجموعة من الأحداث والوقائع الإنسانية التي حدثت له ومضت وانتهت، لكنها في النهاية تُحدث التأثير، وتترك بصماتها وآثارها في حاضر ومستقبل بطل الرواية، وتسهم في تشكيل سلوكه ورغباته. يقول بطل الرواية في إحدى تأملاته: «كنت أنظر إلى المنازل المتهدمة، وأحاول أن أجبر نفسي على تخيل سكانها، لم أكن أفهم كيف يمكن لأحدهم أن يختار حياة بهذه القسوة. وعندما سألت عن هذا أجابني بطريقته الملغّزة. كان يبدو دائماً غير قادر على إعطائي حلاً بل إشارات مجردة. وعلي أنا أن أجتهد في الوصول إلى الحقيقة وحدي. قال لم يختاروها بالتأكيد، إذا ذهب أحدهم للبقاء في الأعلى، سيكون ذلك لأنهم في الأسفل لم يتركوه في سلام». خالد المخضب