من تجاربي الأولى في المطالعة تبين لي أن الكتب تقرأ لتعاد، وأن قراءة الكتاب الواحد ثلاث مرات أنفع للقارئ وأدل على المادة المقروءة من قراءة ثلاثة كتب، كل كتاب مرة واحدة، لأن الكتاب الذي نعيده في حالات ذهنية ونفسية مختلفة يعرض لنا في كل حالة لوناً من معانيه ومحاسنه لا تستوعبه الحالة الواحدة. وهو يثبت في نفسنا بمقدار المتعة المضاعفة من إعادته وإمعان النظر فيه، ولن يكون التفاتنا إليه محصوراً في ناحية واحدة من نواحيه كلما نظرنا فيه، فإن الالتفاف إلى الشيء يتغير من حين إلى حين حتى في هذه المحسوسات التي يحصرها النظر. فلا نتأمل الوجه الجميل عند النظرة الأولى كما نتأمله في النظرة الثانية والثالثة، ولا نستحسنه على الألفة والمعاودة، كما نستحسنه على المفاجأة والدهشة، وليست الوجوه المنظورة بأحوج إلى الإعادة من وجوه المعاني الخفية ولو لم تكن فيها أسرار مطوية، فأما إذا كانت المعاني من ذوات الأسرار المقصودة أو غير المقصودة، فكل سر منها طبقة تستر ما وراءها وكل طبقة كتاب غير الكتاب الذي تحتويه سائر الطبقات. تلك كانت جزءًا من تجربة المفكر وعملاق الأدب العربي الراحل عباس محمود العقاد الذي يؤكد أن القراءة والعيش مع الكتب هي حياة بل دنياوات كثيرة ويلخص لنا ومن واقع تجربته الثرية هذه الخلاصة الذهبية في كيفية القراءة والتعامل مع الكتاب واستيعاب ما جاء به. ولعل من المهم هنا الإشارة إلى هذا العلم الفذ والقارئ النهم الذي قرأ آلاف الكتب (عباس العقاد) وأحد المتربعين على قمة العطاء الثقافي العربي في شتى ألوان المعرفة الدينية والأدبية والنقدية والاجتماعية والسياسية والعلمية وهو الذي لم يحصل سوى على الشهادة الابتدائية فقط، وسعى لتثقيف نفسه بنفسه، ولم تثنيه تلك الشهادة من الوصول للقمة، فكان من المنافسين لكبار أدباء عصره وأصحاب الشهادات العليا، وألف أكثر من مئة كتاب وسطر آلاف المقالات التي لازلت حتى الآن ورغم مرور (59) عاماً على رحيله كنزاً خصباً من العلم والمعرفة، وجعلته لايزال يعيش بيننا بنتاجه الإبداعي وفكره وآرائه النيرة وليؤكد لنا أن الثقافة ومفتاحها الكتاب هي الحلم واليقظة وهي السطر الأول في صفحة البناء والتنمية وحياة الخلود. * كاتب وإعلامي مشعل الحارثي