كتبت عن الراوية الكبير محمد بن عبدالرحمن بن يحيى -رحمه الله- أكثر من مرة في صفحة "خزامى الصحاري" وفي مجلة "المها" الشعبية، وهذا قليل في حقه، والذي تعلّق بالشعر الشعبي القديم منذ بواكير شبابه حفظاً ورواية، وثم بعد ذلك التدوين، وأصبح بهذا العمل رائداً من روّاد الرواية الشعبية، ومن أساطين الرواة الذين حفظوا لنا هذا الموروث الشعبي، ولو لا جهوده لضاع من هذا التراث، وهو بهذا الجهد لم يهدف إلى شهرة، أو الجري من هذا التدوين للمادة، إنما الهدف من هذا العمل أولاً حبه وعشقه لهذا التراث الشعبي القديم، وثانياً جمع هذا الشتات من أفواه الرواة الذين أدركهم وأخذ عنهم سواء كانوا رواة أو شعراء، وأنا في الحقيقة لم أقابله إلاّ مرة واحدة، لكنني قابلت رواة يعرفونه، وقابلت ابنه -طيب الذكر والسمعة- عبدالله بن محمد بن يحيى مرات عدة في منزله، وأمدني بمعلومات عن والده، ولم يبخل عليّ بأية معلومة عنه. وُلد الراوية المؤرخ الأديب محمد بن عبدالرحمن بن يحيى 1330ه بحوطة سدير، ونشأ في قريته مثل ما ينشأ أهل ذاك الزمن على الدين والأخلاق الفاضلة، وكانت الحياة أقسى من القسوة في نجد، فَهَم الناس كسب القوت اليومي، لهذا لابد من الكسب المتواصل طوال النهار إمّا بأجرة زهيدة، أو مقابل هذا الجهد وجبة غداء مع "تميرات" تقدم لهذا الأجير آخر النهار، وقد رحل محمد بن يحيى إلى خارج حوطة سدير فكانت أول رحلة له نحو الكويت، وعمّه قد استقر هناك، فنزل عنده وتعلم على يديه مبادئ القراءة والكتابة والعلوم الشرعية. مدرسة المباركية ولعلَّ محمد بن يحيى -رحمه الله- من أوائل من انضم إلى المدرسة المباركية بالكويت، والتي كانت أول مدرسة نظامية هناك، وافتتحت في عهد الشيخ مبارك بن صباح -حاكم الكويت آنذاك- وتلقى ابن يحيى على أساتذة المباركية جملة من العلوم الإسلامية واللغة العربية، ولا شك أن هذه المدرسة النظامية الحديثة طورت من مسيرته في التعليم، فليست هذه المدرسة على نظام الكتاتيب في نجد، بل هي مدرسة منتظمة يوجد لديها منهج دراسي يومي. وبعدما نهل محمد بن يحيى من المدرسة المباركية يمم شطر العراق وبالتحديد مدينة الزبير، وكذلك زار البصرة واستقر بها مدة من الزمن، وكان الهدف من هذه الزيارة حب الاطلاع على ثقافات أخرى والاختلاط بمجتمع غير مجتمعه النجدي، حيث خالط بعض علماء الزبير وأفاد وفهم، ولعل ميوله الأدبية والتاريخية بدأت في تلك المرحلة من حياته. خدمة والده وكانت رحلات شيخ الرواة محمد بن يحيى -رحمه الله- طلباً للعلم وكذلك للرزق، فجمع بين هذين الأمرين، وقد حل بالبحرين وتعرف على أدبائها وشعرائها، وتوطدت علاقته بالشيخ الشاعر الأديب محمد بن عيسى آل خليفة -متوفٍ 1384ه-، والشيخ محمد آل خليفة أديب ويقرض الشعر الشعبي، بل هو أحد رموز الأدب في البحرين، وأصبحت هذه الصداقة تجمعها حب الأدب والشعر والتاريخ، وأعتقد أن هذه المرحلة من حياة راويتنا محمد بن يحيى مرحلة التعلق بالشعر الشعبي والاهتمام به، ولعل هذه المرحلة هي الانطلاقة الأولى في تدوينه للشعر الشعبي، وقد نسخ ديوان صديقه الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة، وبهذا يعد محمد ين يحيى أول مدون لأشعار الشيخ محمد، ولم يكتف محمد بن يحيى بهذا العمل الأدبي بل نسخ تاريخ أسرة آل خليفة بيده وكان خطه جميلاً، وبعد البحرين سافر إلى قطر والإمارات لأجل لقمة العيش، ثم رجع مرةً أخرى إلى الكويت عند عمه، وعاوده الحنين إلى ملاعب صباه ومراتع طفولته حوطة سدير، وكان والده الشيخ عبدالرحمن بن يحيى قد دق عظمه ووهن جسمه وكلت قواه وأصبح محتاجاً إلى عون ابنه محمد، فرحل ابنه إلى حوطة سدير ولازم أباه باذلاً طاقته وجهده وصحته في خدمة والده وبره بأنواع البر والإحسان حتى توفى الله والده وهو راضٍ عنه عام 1364ه. مستور الحال وبعد وفاة والد محمد بن يحيى -رحمه الله- سافر إلى الرياض العاصمة، واستقر فيها من ذلك التاريخ، وأصبحت مسكناً له حتى وفاته، وكانت رحلة راويتنا إلى الرياض والاستقرار فيها الاستقرار النهائي بغية مصدر دخل ثابت يعيش به وأسرته على الكفاف والستر، وهكذا عاش طيلة حياته عزيز النفس لا يتطلع إلى جاه أو مال، وإلاّ لو كان يريد هذا الأمر لسخر محفوظاته الشعرية وغزارة معرفته بالتراث الشعبي وثقافته الأدبية عند علية القوم، وهو من الندماء الذين لا يمل حديثهم، لكنه عاش مستور الحال، وحتى لو صادفته بعض المناسبات باللقاء بهم، فلا يمكن أن يتزلف لأحد، بل كان معتزاً بخلقه وبمبادئه والقيم التي عاش عليها حتى رحل عن هذه الدنيا الفانية، وهذا ليس معناه أن ابن يحيى منطوي على نفسه لا يحب الخلطة، بل على العكس فأنا شاهدته وجلست معه فهو اجتماعي وحديثه مؤنس وجذاب وغير متكلف، فهو سليم القلب طاهر النفس، وعندما جالسته في منزله بالشميسي في مجلسه الصغير وكنت صغير السن، فلم يكن سني آنذاك حاجزاً لي عن مجالسته، بل عندما صليت معه في مسجده الطيني وسلمت عليه ورغبت في زيارته لم يمانع بل رحّب وقال لي: «غداً تزورني»، وجئت في الموعد وسألته بعض الأسئلة ومنها عن تاريخ المؤرخ حمد بن لعبون وقال: «إنه كان عندي نسخة مخطوطة وفقدت مني». صديق خاص ومن حديث محمد بن يحيى -رحمه الله- لي: أنه أرسل ثناءً على مؤلف كتاب (علماء نجد خلال ستة قرون) الطبعة الفريدة الأولى لعبدالله بن عبد الرحمن البسام وقال: «إنني أثنيت على البسام وأنه يستحق الثناء»، وكان الأديب عبدالعزيز الأحيدب المؤلف المعروف حاضراً ذاك المجلس، والأحيدب صديق خاص لابن يحيى، وكان وفياً معه، وقد استفاد الأديب عبدالعزيز الأحيدب من صديقه ابن يحيى، حيث أخذ عنه جملة من الأشعار الشعبية في مؤلفاته، ومنها كتابه الطريف والممتع والمسلي (تحفة العقلاء في القهوة والثقلاء) الذي ضم أشعاراً شعبية عند القهوة واستفاد منه في قسم الأشعار الشعبية، والكتاب يضم بين دفتيه أشعاراً فصيحة، وكذلك استفاد منه في كتابه (الألغاز المعنوية في الأشعار الشعبية)، والأحيدب وابن يحيى متقاربان في العمر فهو من مواليد عام 1333ه وابن يحيى ولد عام 1330ه وكلاهما من منطقة سدير، والأحيدب كان وفياً مع صديقه الحميم ابن يحيى كما علمت من ابنه عبدالله. عملاق الرواية واستحق محمد بن يحيى -رحمه الله- لقب «عملاق الرواية»، حيث وهب نفسه ووقته لتدوين الأشعار الشعبية، بل فرّغ نفسه لهذا المشروع الوطني وأنجزه بمفرده وبجهد شخصي فردي، كان قلمه معه في حله وترحاله، يكتب كل ما يسمع من أشعار قديمة ويلتقي الرواة، وكان يكتب بالحبر وخطه جميل جداً، فكان القلم والقرطاس صديقين لابن يحيى لا يفارقانه إلاّ حين يذهب إلى فراشه للنوم، ولم يكن مكلفاً من قبل أي جهة رسمية، لكنه ألزم نفسه كواجب وطني كما يقال لزوم ما لا يلزم، فابن يحيى يرى أن حفظ هذا التراث الشعبي واجب، وكانت البدايات في مخطوطات صغيرة ثم جمعها في مخطوطات كبيرة، وأطلق عليها (باب الأفكار في غرائب الأشعار)، وهي جزأان كبيران انتهى منهما في عام 1386ه، ثم كتبها مرةً أخرى في مخطوطة أخرى بعنوان آخر (مخزن الفوائد في غرائب القصائد) وقد انتهى منه بتاريخ 12 /11 / 1402ه ويقع في عدة أجزاء حوى الكثير من دواوين الشعراء الشعبيين، حيث ذكر جميع أشعار الشاعر، فمثلاً يذكر الأشعار التي للشاعر محمد بن عبدالله القاضي وكلما انتهى من كتابة كل قصيدة بدأ بقصيدته التالية قائلاً: وله أيضاً، فكان هذا الديوان (مخزن الفوائد في غرائب القصائد) وكذلك (باب الأفكار في غرائب الأشعار) الذي لا يختلف عنه كثيراً مصدر من مصادر الشعر الشعبي القديم. شعراء معاصرون ولم يكتف محمد بن يحيى -رحمه الله- بالشعراء الذين لم يشاهدهم ولم يعاصرهم، بل أخذ عن شعراء معاصرين، وأصبح هو راوية لهؤلاء الشعراء، مثل الشاعر سليمان بن علي صاحب الداخلة الذي روى أشعاره وكانت له به علاقة وصداقة، بل إن الشاعر سليمان لما علم أن صديقه محمد بن يحيى قد كسرت رجله في موسم من مواسم الحج وكان حاجاً، ولمّا رجع إلى الرياض وأصبح حبيس منزله جاء سليمان بن علي وأصبح ملازماً له في منزله ليلاً ونهاراً حتى برئت رجل ابن يحيى، وهذه والله مكرمة من مكارم وأخلاق هذا الشاعر ابن علي -رحمه الله-، ولو لم يكن الراوية محمد بن يحيى صديقاً عزيزاً لسليمان لما ترك منزله وأهله وفرغ نفسه للجلوس مع صديقه، وهذا الموقف مما أخبرني به عبدالله بن محمد بن يحيى الابن البار لوالده. غزارة معلومات وعبدالله بن خميس -رحمه الله- من أولئك الأصدقاء لمحمد بن يحيى -رحمه الله-، وقد استفاد ابن خميس منه حينما ألّف بعض كتبه مثل كتابه الممتع (الشوارد) الجزء الثالث، وكتابه (تاريخ اليمامة) الجزء الخامس، وقد أثنى عليه في أكثر من موضع بغزارة معلوماته وحفظه للشعر الشعبي، وأثنى عليه في إحدى مقالاته التي جمعها في كتاب بعنوان (جهاد قلم)، وكانت صحبة طويلة الأمد، وكان ابن خميس يزور محمد بن يحيى في منزله بالشميسي ويستفيد منه ويكتب ويروي، فكان محمد بن يحيى مصدراً من مصادر ابن خميس في الشعر الشعبي، وكانت نسخة ل(باب الأفكار في غرائب الأشعار) الأصلية عنده، وأهداها ابن خميس لمكتبة الملك فهد. وكان من أصدقاء محمد بن يحيى الإعلامي منديل الفهيد صاحب كتاب (من آدابنا الشعبية) تلك الموسوعة الشعبية، وبرنامجه المشهور «من البادية»، ومن أصدقاء ابن يحيى الأوفياء الإعلامي إبراهيم اليوسف الذي أطلعني على مخطوطة شعرية شعبية انتقاها له محمد بن يحيى. مارس التدريس ومارس محمد بن يحيى -رحمه الله- مدة من الزمن التدريس في «قصر شليم» للمواد الشرعية، وترأس العاملين في هذا القصر الأثري التاريخي الذي كان مضيفاً للناس، ثم عمل موظفاً بالمحكمة الكبرى كاتب ضبط، ثم انتقل إلى محكمة التمييز حتى تقاعد عام 1400ه. وأول كتاب أصدره ابن يحيى هو نشر شعر الشاعر محمد العوني مع الشاعر إبراهيم بن جعيثن، وذلك بتاريخ 1372ه، والناشر مكتبة النهضة بالرياض، وشاركه في النشر عبدالله الحاتم كما ذكر العالم العراقي على جواد الطاهر في كتابه (معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية) نقلاً عن محمد الحمدان. يُذكر أن محمد بن يحيى جمع ديوان صديقه سليمان بن علي فيما أعلم من معلوماتي عنه، وجمع شعر صديقه وجاره في حي الشميسي الشاعر المنطيق حاضر بن حضير الذي توفي عام 1378ه، وكذلك نسخ ديوان الشاعر عبدالله بن لويحان، وكان يملى عليه وابن يحيى ينسخ، وكان هذا في مدينة الرياض في منزل بحي دخنة سكنه الشاعر ابن لويحان. وبعد أن امتد عمر محمد بن يحيى أربعة وتسعين عاماً توفي يوم الأربعاء الموافق السادس والعشرين من شهر جمادي الأولى لعام 1414ه، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى، ودفن بحوطة سدير. عبدالله بن خميس من أصدقاء ابن يحيى عبدالعزيز الأحيدب صديق محمد بن يحيى الإعلامي إبراهيم اليوسف من المقربين لابن يحيى محمد بن يحيى من أوائل الذين انضموا إلى المدرسة المباركية في الكويت رسالة ثناء من محمد بن يحيى إلى عبدالله البسام خط يد محمد بن يحيى في مخطوطة باب الأفكار في غرائب الأشعار إعداد- صلاح الزامل