التواضع مقياس للشخصية والمظهر ومعيار للتصرف وللسلوك وعنوان للحكمة والعقل، وهو أن تضع نفسك بحيث يجب لها أن توضع دون تكبر وافتخار أو مذلة وهوان، فالمؤمن ليس متكبرًا وليس ذليلاً، قال تبارك وتعالى في سورة الفرقان: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا" (الفرقان: 63). وفي قصة آدم عليه السلام نجد تواضعه في الاعتراف بالخطيئة، وظلمِ النفس بالأكل من الشجرة التي نُهيَ عن الأكل منها، وفي طلبه مغفرةَ ربه ورحمته بعد ذلك، فقبل اللهُ تعالى توبته ورحمه فضلاً منه حيث قال تعالى: "فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (البقرة: 37). ولقد كان لنا في رسلنا منارات مشرقة نستهدي بهديهم ونستنير بنورهم في رفعة التواضع وفضله حيث يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبوهريرة: «من تواضع لله درجة رفعه الله درجة» ويقول عليه أفضل الصلاة والسلام فيما يرويه أبو هريرة، أيضاً: «ما من أحد تواضع لله إلا رفعه الله». والتواضع من خلق المرسلين، يأمر الله جل جلاله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالتواضع، قال تعالى في سورة الحجر: "وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ"، ويؤكده بقوله سبحانه في سورة الشعراء: "واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين"، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» رواه مسلم، ويجد المسلم في شخصية الرسول الكريم علمًا حيًّا ومثالاً فريدًا في التواضع وخفض الجناح ولين الجانب وعفوية التبسط، وكرم الخلق، وسماحة النفس، حتى إنه كان إذا مر بالصبيان يلعبون وقف عندهم مسلّمًا متبسطًا ممازحًا، لا يحجبه عن هذا التواضع العظيم مقام النبوَّة وجلال القيادة ولا سمو المكانة ورفعة المنزلة فلقد كان خُلُقه عليه الصَّلاة والسلام؛ ليِّن القلب، رحْب الصدر، حليمًا رحيمًا متواضعًا مع الصغير والكبير، وإذا أجملنا الكلامَ فإنَّ خُلقه القرآن كما قال عنه ربه سبحانه وتعالى: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم: 4). ويقدم تميم بن أسيد إلى المدينة ليسأل عن أحكام الإسلام، فلا يجد هذا الرجل الغريب الراغب في مقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الأول في الدولة الإسلامية لا يجد أسوارًا ولا حراسًا ولا حُجَّابًا، وإنما يرى الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب في الناس، فيتقدم إليه سائلاً مستفسرًا، فيقبل عليه الرسول الكريم بكل بساطة وتواضع ولطف وحنو، ويجيبه على سؤاله. ومن أمثلة التواضع في القرآن الكريم نذكر النبي موسى عليه السلام إذ كان ذا منزلة عظيمة عند الله تعالى فهو كليم الرحمن، ومن أولي العزم من الرسل ومؤيَّدٌ بالمعجزات الباهرات وأنزل الله إليه التوراة، وكان عند الله وجيهًا، ومع كل ذلك فقد رحل ليقابل الخضرَ عليه السلام ليتأسى به ويتعلم منه، فنتأمل كيف بدا معه في أدب التواضع مع معلمه الخضر الذي هو أقل منه منزلة وشأنًا، فقد خاطبه هذا الخطاب المتواضع الرقيق قائلاً: "قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا" (الكهف: 66)، فطلب منه التعليم بهذا السؤال: (هل أتبعك)؟، وفيه من التواضع وحسن الخطاب والاستئذان والتأدب ما يفوق الوصف، ثم إنه جعل من نفسه تابعًا للخضر فقال: (أتبعك)، وهذا من عِظم التواضع، ثم إنه جعل نفسه جاهلاً محتاجًا إلى تعليم الخضر فقال: (على أن تعلمني)، وفيه وصف للخضر بأنه أهل لتعليمه، وفوق هذا وذاك وعد من نفسه الالتزامَ بالطاعة والإذعان وعدم العصيان، فقال: "قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا" (الكهف: 69)، وهذا قمة التواضع والخضوع وبالغ الطاعة والإذعان. ومن أمثلة التواضع في القرآن الكريم أيضًا نذكر عن تواضع النبي سليمان عليه السلام، الذي لم يكن نبيًا فحسب؛ بل كان ملكاً لم يحظ ملك في الوجود بمُلك مثله، عُلّم منطق الطير وسُخّرت له الشياطين وساد الإنس والجن جميعًا في زمانه وسبَّحت بتسبيحه الطيور والجبال، وسُخّرت له الريح، ومع هذا فما استطال أو زها أو تعاظم بهذه النعم الوفيرة على أحد من رعيته بالرغم مما عنده من القدرات والقوى التي حباه الله بها. وفي هذا السياق أيضًا نذكر ما حصل بين موسى وأخيه هارون وبين فرعون وقارون اللذين أصيبا بالغرور والزهو والأشر والبطر بما أُعطوا من نعم وقوى، ففرعون ساقه جنون العظمة والغرور بالملك إلى ادعاء الربوبية والألوهية، وإلى ردّ دعوة الحق التي جاء بها موسى وهارون عليهما السلام، وإلى ظلم الخلق بأنواع من العنف والتعسُّف، قال تعالى عنه: "فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى" (النازعات: 24)، وكذلك: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ" (القصص: 38)، "وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ" (الزخرف: 51)، فماذا كانت نهاية هذا المتجبر المتغطرس الذي لم يعرف للتواضع طريقًا؟ قال تعالى: "فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ" (القصص: 40). وأما قارون فحمله الكبْر بماله الوفير على نسبته لنفسه، والتِّيه به على خلق الله، وردِّ دعوة الحق التي وصلت إليه، قال تعالى: "قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ" (القصص: 78) فكانت عندئذٍ نهاية الترفع المقيت في قوله عز من قائل: "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ" (القصص: 81). كذلك ما حكى عن النبي يوسف عليه السلام، فحين تم له الملك وانبسطت له الدنيا أتى بأبويه وإخوته إلى رحابه لاجئًا إلى ربه ضارعًا إليه في أدب وتواضع وخضوع كما جاء في سورة يوسف: "رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" (يوسف: 101). وفي قصة يوسف عليه السلام وإخوته دروس من التواضع؛ فإنه عليه السلام أحسن إلى إخوته بالقول والفعل فعفا عنهم وأكرمهم وهم الذين قد أساؤوا إليه قولاً وفعلاً، وكان قادرًا على الانتقام منهم ومعاقبتهم، لكنه لم يفعل، بل إنه لما دخل عليه أخوه بنيامين قال له: "إِنِّي أَنَا أَخُوكَ" (يوسف: 69)، فجرد نفسه عن الألقاب الوظيفية، وأزال عنها العظمة المتعالية، وخاطبه بالصفة التي يشترك فيها معه، وهي صفة الأخوة، فلم يقل: أنا العزيز يوسف بل أسقط عن نفسه وصف العزيز ونحوه من نعوت العظمة والجاه والسلطان. وأخيرًا، من هدي القرآن الكريم وسير الرسل عليهم السلام ندرك قيمة التواضع وأنه نقيض التكبر والزهو والترفع والاستعلاء في الدنيا وأنه يحرم صاحبه من نعيم الآخرة التي حرم الله نعيمها على المتكبرين وجعله للذين لا يريدون الاستعلاء والاستكبار في الأرض. إن المسلم متواضع الخلق لين الجانب، سمح النفس، رقيق الطبع، ذلك أنه في مقابل النصوص المهددة المتوعدة للمتكبرين يجد نصوصًا مرغبة حاضنة محببة للتواضع وخفض الجناح، تعد كل من تواضع بالرفعة والعزة والسمو، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» رواه مسلم.، فالحذر كل الحذر من الاتِّصاف بخُلُق الشياطين وكبيرهم إبليس الذي تكبَّر وتعالى على الله حيث قال فيه جل وعلا: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (البقرة: 34)، كما أن المسلم يلزمه الاتِّصافُ بهذا الخُلُق العظيم - التواضع - في كلِّ صور حياته؛ فيَعبد اللهَ تعالى ممتثلًا أوامره، مجتنبًا نوهيه، متواضعًا لعظمته سبحانه، خاضعًا لعزَّته، قال سبحانه وتعالى: "إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" (السجدة: 15)، فلا عُلو ولا فَساد ولا ظلم في الأرض لِمن أراد أن يصيب نعيمَ الآخرة، قال عز من قائل: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص: 83). هذه هي قصص الكتاب المجيد حافلة بنماذج مشرقة من العمل بخلق التواضع من الأنبياء أو الصالحين من أتباع الأنبياء عليهم السلام، فيكون في ذلك دعوة للتأسي بهم والتحلي بأخلاقهم والسير على منهاجهم لاعتناق هذا الخلق الحميد الذي لا ينقص قدرَ صاحبه ولا ينزله عن مكانته، بل يرفعه ويعلي شأنه ويحببه إلى الخالق وإلى خلقه حيث يزداد الإنسان به شرفًا ورفعة ومكانة وسموّاً.