التعالي والكبر ظلمٌ للنفس قبل أن يكون ظلماً لآخرين، ويدل على وجود خلل داخل الإنسان المتعالي وتعبيره عن نفسه، يؤدي لبعد الناس عنه، وللتعالي أسبابه وجذوره، وله بالطبع مشاكل وتأثيرات سلبية وعاها الإسلام وعالجها لوقاية المجتمع من شرها. وبما أن التعالي من أقبح الطباع وهو صفة ممقوتة وعادة مذمومة رفضها الإسلام، لأنها تنافي الشيم النبيلة، والأخلاق العالية، والفطرة السوية، تعالوا نتعرف عن أعراض هذا الداء، وكيف نتخلص منه؟ جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة. وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره. و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله.. آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. سلمان بداية يوضح الدكتور عبدالمحسن القاسم إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف أن أصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والاستعلاء، به اتصف ابليس فحسد آدم، واستكبر، وامتنع عن الانقياد لأمر ربه، {وإذً قٍلًنّا لٌلًمّلائٌكّةٌ اسًجٍدٍوا لآدّمّ فّسّجّدٍوا إلاَّ إبًلٌيسّ أّّبّى" واسًتّكًبّرّ وكّانّ مٌنّ الكّافٌرٌينّ }. والكبر سبب للفرقة والنزاع والاختلاف والبغضاء، قال جل وعلا: {فّمّا اخًتّلّفٍوا إلاَّ مٌنً بّعًدٌ مّا جّاءّهٍمٍ العٌلًمٍ بّغًيْا بّيًنّهٍمً}، وبسببه تنوعت شنائع بني اسرائيل مع أنبيائهم بين تكذيب وتقتيل: {أّفّكٍلَّمّا جّاءّّكٍمً رّسٍولِ بٌمّا لا تّهًوّى" أّنفٍسٍكٍمٍ اسًتّكًبّرًتٍمً فّفّرٌيقْا كّذَّبًتٍمً وفّرٌيقْا تّقًتٍلٍونّ}. والمتكبر متبع لهواه ينظر إلى نفسه بعين الكمال وإلى غيره بعين النقص، مطبوع على قلبه لا يقبل ما لا يهوى {كّذّلٌكّ يّطًبّعٍ اللَّهٍ عّلّى" كٍلٌَ قّلًبٌ مٍتّكّبٌَرُ جّبَّارُ}، والله تعالى يبغضه {إنَّ اللَّهّ لا يٍحٌبٍَ كٍلَّ مٍخًتّالُ فّخٍورُ}، والمتصف بالكبر مصروف عن الاعتبار والاتعاظ بالعبر والآيات، {سّأّصًرٌفٍ عّنً آيّاتٌيّ الذٌينّ يّتّكّبَّرٍونّ فٌي الأّرًضٌ بٌغّيًرٌ الحّقٌَ}. والمستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل، وقد تُعجل له العقوبة في الدنيا، وقد خسفت الأرض بمتكبر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجلاً رأسه يختال في مشيته إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» متفق عليه، وفي الآخرة يعامل بنقيض قصده، فمن ترفع عن الناس في الدنيا يطؤه الناس بأقدامهم في الآخرة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطؤهم الناس بأرجلهم» رواه الترمذي. ويقول د.القاسم: إن الكبرياء من خصائص الربوبية لا ينازع فيه أحد من عباده، ومن اتصف به من المخلوقين عذبه الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «قال الله عز وجل: العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن ينازعني في واحد منهما عذبته» رواه مسلم، والله جل وعلا هو المتكبر، قال سبحانه عن نفسه: {العّزٌيزٍ الجّبَّارٍ المٍتّكّبٌَرٍ}، والإسلام حمى جناب الكبرياء والعظمة لله، وحرم كل طريق ينازع الرب في كبريائه، ونهى عن ميل الخد والإعراض به تعاظماً على الآخرين، ولم يأذن بمشية الخيلاء تبختراً في غير الحرب، قال جل وعلا: {ولا تٍصّعٌَرً خّدَّكّ لٌلنَّاسٌ ولا تّمًشٌ فٌي الأّرًضٌ مّرّحْا}، ونهى عن التشدق في الكلام اعتزازاً، قال عليه الصلاة والسلام: «وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون» رواه الترمذي، لذا وجب على المسلمين نزع رداء الكبر والتعاظم فإنهما ليسا للمسلم بل هما للخالق، وعليهم لبس رداء الانكسار والتواضع، فما دخل قلباً شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك أو أكثر. رفعة الدنيا والآخرة ، وما من نبي إلا ورعى الغنم، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان رقيق القلب رحيماً خافض الجناح للمؤمنين لين الجانب لهم، يحمل الكلّ ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الدهر، وركب الحمار وأردف عليه، يسلم على الصبيان، ويبدأ من لقيه بالسلام، يجيب دعوة من دعاه ولو إلى ذراع أو كراع، ولما سئلت عائشة رضي الله عنها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته قالت: «يكون في مهنة أهله - يعني خدمتهم - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة» رواه البخاري. ويضيف د. القاسم: والتواضع سبب العدل والألفة والمحبة في المجتمع، يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لايفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» رواه مسلم، والمتواضع منكسر القلب لله خافض جناح الذل والرحمة لعباده، لا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، وهذا خلق إنما يعطيه الله من يحبه ويقربه ويكرمه. وأكرم التواضع بعد حق الله هو التواضع في جنب الوالدين ببرهما وإكرامهما وطاعتهما في غير معصية، والحنو عليهما والبشر في وجهيهما والتلطف في الخطاب معهما، وتوقيرهما والإكثار من الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما، قال جل وعلا: {واخًفٌضً لّهٍمّا جّنّاحّ الذٍَلٌَ مٌنّ الرَّحًمّةٌ وقٍل رَّبٌَ ارًحّمًهٍمّا كّمّا رّبَّيّانٌي صّغٌيرْا}، أما الاستنكاف عن أوامرهما والاستكبار عليهما والتأفف من قضاء حوائجهما فهو ضرب من الكبر، والعقوق متوعد صاحبه بدخول النار. وينصح بالتواضع للدين ولا تعارضه برأي أو هوى، ولا تعرض عن تعلمه والعمل به، ومن أسدى إليك نصحاً فاقبله واشكر قائله، ومن أمرك بمعروف أو نهاك عن منكر فامتثل لرشده، فالحظوة في التواضع للطاعة، يقول الفضيل رحمه الله: «التواضع ان تخضع للحق وتنقاد له»، قال رجل لمالك بن مغول: «اتق الله» فوضع خده على الأرض، والمعلم والمتعلم يتواضعان مع توقير المعلم، ولقد كان شيخ المحدثين أبو موسى المديني يقرئ الصبيان القرآن في الألواح مع جلالة قدره وعلو منزلته. كما أن التواضع للمرضى بعيادتهم والوقوف بجانبهم، وكشف كربتهم وتذكيرهم بالاحتساب والرضا والصبر على القضاء، ضرورة إسلامية، وكذلك الأمر للفقراء والمساكين. التعالي على الناس ويرى د.فالح بن محمد الصغير، أستاذ السنة النبوية بكلية أصول الدين بالرياض ان التعالي على الآخرين وظلمهم والكبر والغطرسة بحيث لا يرى لأحد قدراً، خصلة ممقوتة عند الله وعند الناس، ولذا نهى الشرع عنها، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر)، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ قال: (إن الله جميل يحب الجمال، الكبربطر الحق «أي رده»، وغمط الناس «أي احتقارهم»). والكبر والظلم متلازمان، فالذي يتكبر ويتعالى على الناس يستحل دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وقد ورد في فرعون أنه {عّلا فٌي الأّرًضٌ وجّعّلّ أّهًلّهّا شٌيّعْا يّسًتّضًعٌفٍ طّائٌفّةْ مٌَنًهٍمً يٍذّبٌَحٍ أّبًنّاءّهٍمً ويّسًتّحًيٌي نٌسّاءّهٍمً إنَّهٍ كّانّ مٌنّ المٍفًسٌدٌينّ}، كما أخبر الله سبحانه أن اليهود يتجبرون ويتعالون على الناس مرتين، فقال: {وقّضّيًنّا إلّى" بّنٌي إسًرّائٌيلّ فٌي الكٌتّابٌ لّتٍفًسٌدٍنَّ فٌي الأّرًضٌ مّرَّتّيًنٌ ولّتّعًلٍنَّ عٍلٍوَْا كّبٌيرْا}. فالتعالي على الناس ليس من خلق المسلم، بل من خصال الجبابرة والكفرة والمعاندين الجاحدين، فهو خصلة فرعون وأبي جهل وأبي لهب وخصلة اليهود المغضوب عليهم وقوم عاد وثمود، فلا يليق بالمسلم أن يتجبر ويطغى ويتعالى على أخيه المسلم وإلا كانت عاقبته عاقبة هؤلاء الظالمين المفسدين من فرعون وهامان واليهود ومن على شاكلتهم. الصفة المزعجة يقول الشيخ راشد بن عثمان الزهراني عضو الدعوة والإرشاد بالرياض: المعاني الجميلة تسعد الخاطر وتريح الفؤاد فما إن تسمع خلة حميدة، وصفة خلابة إلا وتسر بها، تأمل مشاعرك وأن تردد أو تسمع التواضع، الرحمة، العدل، الحرية، الصدق، الأمانة، وغيرها من صور الجمال، وفي المقابل تتقرح الأكباد وتمزق الأفئدة وتصاب بالذهول إذا تأملت معاني مثل التعالي على الخلق، التكبر، الظلم، الاستعباد، الكذب، الخيانة. ومن محاسن ديننا الحنيف أنه أتى لتهذيب القلوب والعقول، وجاء لتزكية الأفئدة والجوارح، وقد لخص النبي صلى الله عليه وسلم يوماً رسالته فقال: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق). والتعالي على الآخرين هو صفة مزعجة، وخلة سيئة، تمكنت من بعض الناس فأبغضهم الخلق، وهذا الصنف من الناس بعيد عن الله، بعيد عن الناس، قريب من النار، بعيد عن الجنة. وقد كانت هذه الصفة القبيحة ملة بعض سادات مكة قبل الإسلام فكانوا يأنفون من الجلوس مع العبيد والموالي الطبقة الثانية في المجتمع الجاهلي، بل ويتأففون ممن يجالسهم، بل إن بعضهم ازدرى الحق وعاب الشريعة، وطعن في الملة لأن الذين التحقوا بها أكثرهم من الطبقة الثانية فقالوا {لّوً كّانّ خّيًرْا مَّا سّبّقٍونّا إلّيًهٌ}. وفي يوم حلت السكينة في قلوبهم قالوا يا محمد إننا نريد أن نسمع منك ولكن إن أردت ذلك فاطرد هؤلاء القوم، فنزل قول الباري - عز وجل -: {ولا تّطًرٍدٌ الذٌينّ يّدًعٍونّ رّبَّهٍم بٌالًغّدّاةٌ والًعّشٌيٌَ يٍرٌيدٍونّ وجًهّهٍ مّا عّلّيًكّ مٌنً حٌسّابٌهٌٌم مٌَن شّيًءُ ومّا مٌنً حٌسّابٌكّ عّلّيًهٌم مٌَن شّيًءُ فّتّطًرٍدّهٍمً فّتّكٍونّ مٌنّ الظَّالٌمٌينّ}، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة ونزل على الهادي الهداية حث الناس على التواضع بقوله وفعله. أما القول، فقال تعالى: {واخًفٌضً جّنّاحّكّ لٌمّنٌ اتَّبّعّكّ مٌنّ المٍؤًمٌنٌينّ}، التواضع محبوب من الناس فمن تواضع بأخلاقه ارتفع في قلوب أصحابه، قال صلى الله عليه وسلم: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) رواه مسلم. وأما الفعل، فالسيرة مليئة، والأخبار كثيرة، ومن الأخبار العجيبة والقصص العظيمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عام الفتح ومعه أكثر من عشرة آلاف مقاتل، كل واحد يريد أن يُمزق بدنه إرباً إرباً ولا تصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم شوكة، ولم يكن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحدث «العادي»! بل كان له أبعاد كثيرة، فقبل ثماني سنوات خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة طريداً شريداً وإذا به يدخل الآن منصوراً، فالموقف موقف نصر وإظهار مكانة وانتقام ممن بدأوا العداء لكن هذه ليست أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا تواضع لله ربه فدخل مكة وهو مطأطئ رأسه رافع قلبه لله وهو يقول: (اللهم إن العيش عيش الآخرة)، ثم تأمل قصة أخرى في فتح مكة، يدنو منه أحد الأعراب فلما رأى رسول الله ارتج عليه ولم يستطع أن يعبر عما يجيش في نفسه فلما رأى رسول الله هذا المنظر أراد ان يهون عليه فقال: (اربع على نفسك فإنك لا تتحدث مع ملك من ملوك الأرض وإنما تتحدث مع رجل كانت أمه تأكل القديد بمكة). الأخلاق العالية ويتساءل الشيخ الزهراني: أين هذا ممن تأصل في قلبه احتقار الناس، فازدراهم بقوله وفعله، أو بقوله أو بعقله، هؤلاء أجزم أنهم يصابون بمرض نفسي فضلا عن مخالفة هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولذا نذكرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر كبه الله لوجهه في النار) رواه أحمد. وللأسف نجد أن التعالي أصاب بعض المعلمين الذين يزدرون تلاميذهم، فقد يخطئ المعلم فيأنف ان يقبل من الطالب ويعتبرها سبة ونقصاً، وفي أنصاف طلبة العلم لأن العلم ثلاثة أشبار من دخل في الشبر الأول تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث أيقن أنه لا يعلم شيئاً. ويرى الزهراني أن الإنسان يجب أن يتأمل مما خُلق {خٍلٌقّ مٌن مَّاءُ دّافٌقُ، يّخًرٍجٍ مٌنً بّيًنٌ الصٍَلًبٌ والتَّرّائٌبٌ}، كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم حسن الله خلقه، وليتأمل المتعالي أيضاً نعم الله عليه من نعمة السمع والبصر والرجل واليد وغيرها، ألا يدعوه ذلك لئن يتواضع لله ولخلقه، وليتأمل الإنسان في ملكوت الله، قال صلى الله عليه وسلم: (ما السموات السبع والأراضين السبع في كف الرحمن إلا كجردلة الغيث في فلاة) هذه السموات والأرض فأين هذا المتعالي من السموات والأرض؟ والتأمل في خلق الله يكسر النفس ويخفض الجناح ويذل القلب لله، وكذلك يجب أن يتأمل الإنسان في نفسه وتقصيرها وكثرة الخطأ والخلل منها ليدرك قيمة نفسه فنحن بشر مذنبون خطاءون لا حول لنا ولا قوة، لذا قال الشاعر المسلم: تواضع تكن كنجم لاح لناظر على طبقات الماء وهو رفيع ولا تكن كدخان يعلو بنفسه في طبقات الجو وهو وضيع الكبر وآثاره ويتفق الشيخ عبدالله بن سليمان الخضيري مع الرأي السابق فيقول: إن الكبر خلق ذميم لا يتصف به إلا من حرم التوفيق والأجر والثواب، والكبر وضح معناه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال متوعداً المتكبرين :(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال: إن الله جميل يجب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) رواه مسلم، ومعنى (بطر الحق)رده ودفعه وإنكاره على قائله ترفعاً وتجبراً، أما (غمط الناس) فهو احتقارهم وازدراؤهم. وهذا الحديث يشير إلى أن حسن الهيئة والتجمل في اللباس أمر مشروع محبوب إلى الله وليس من الكبر، إنما الكبر ما ينطوي عليه القلب من تعاظم ورؤية للنفس، ورد للحق، واحتقار للخلق، ألا فبعداً لكل متكبر جبار. وقال الله عز وجل: {كّذّلٌكّ يّطًبّعٍ اللَّهٍ عّلّى" كٍلٌَ قّلًبٌ مٍتّكّبٌَرُ جّبَّارُ}، وقال سبحانه: {إنَّهٍ لا يٍحٌبٍَ المٍسًتّكًبٌرٌينّ }، وقال جل وعلا: {إنَّ الذٌينّ كّذَّبٍوا بٌآيّاتٌنّا واسًتّكًبّرٍوا عّنًهّا لا تٍفّتَّحٍ لّهٍمً أّبًوّابٍ السَّمّاءٌ ولا يّدًخٍلٍونّ الجّنَّةّ حّتَّى" يّلٌجّ الجّمّلٍ فٌي سّمٌَ الخٌيّاطٌ}. والكبر هو الذي قاد إبليس إلى الكفر فامتنع من السجود لآدم، قال تعالى: {وإذً قٍلًنّا لٌلًمّلائٌكّةٌ اسًجٍدٍوا لآدّمّ فّسّجّدٍوا إلاَّ إبًلٌيسّ أّّبّى" واسًتّكًبّرّ وكّانّ مٌنّ الكّافٌرٌينّ}. والكبر رداء ربنا الكبير المتعالي، فكيف يجوز للمخلوق الضعيف أن ينازع الخالق جل وعلا؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: العز إزاري والكبرياء ردائي فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته) رواه مسلم. وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل يذهب بنفسه (يعني يتكبر ويرتفع) حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم) رواه الترمذي وقال حديث حسن. والكبر - أعاذنا الله منه - هو الذي جعل الكفار يرفضون دعوة الرسل لما جاؤوهم بالبينات: {فّقّالٍوا أّبّشّرِ يّهًدٍونّنّا فّكّفّرٍوا وتّوّلَّوًا واسًتّغًنّى اللَّهٍ واللَّهٍ غّنٌيَِ حّمٌيدِ}، {وجّحّدٍوا بٌهّا واسًتّيًقّنّتًهّا أّنفٍسٍهٍمً ظٍلًمْا وعٍلٍوَْا فّانظٍرً كّيًفّ كّانّ عّاقٌبّةٍ المٍفًسٌدٌينّ}، وهكذا يفعل الكبر بأصحابه، ليرفضوا الحق ونُصح الناصحين ويصروا على العناد مستكبرين: {وإن يٍهًلٌكٍونّ إلاَّ أّّنفٍسّهٍمً ومّا يّشًعٍرٍونّ}، وإن المستكبرين ربما عجل لهم العقاب في دار الدنيا قبل الآخرة. وقد ثبت في صحيح مسلم ان رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: (كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه) أي شلت. ويرى الخضيري أن من مظاهر الكبر الاختيال في المشية وإسبال الثياب، مع لي صفحة العنق، قال الله تعالى: {واللَّهٍ لا يٍحٌبٍَ كٍلَّ مٍخًتّالُ فّخٍورُ }، وقال تعالى {ولا تٍصّعٌَرً خّدَّكّ لٌلنَّاسٌ ولا تّمًشٌ فٌي الأّرًضٌ مّرّحْا إنَّ اللَّهّ لا يٍحٌبٍَ كٍلَّ مٍخًتّالُ فّخٍورُ، واقًصٌدً فٌي مّشًيٌكّ واغًضٍضً مٌن صّوًتٌكّ إنَّ أّنكّرّ الأّصًوّاتٌ لّصّوًتٍ الحّمٌيرٌ}، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً). صفات المتكبر المتعالي والمتكبر هو الشخص الذي يحب أن يسعى الناس إليه، ولا يسعى هو إليهم، وأن يمتثلوا له قياماً إذا مر بهم أو دخل عليهم، وأن يتقدم عليهم في الحديث أو المشي أو غير ذلك مع تقعر بغيض في كلامه وسلامه، وإذا أتيحت له الفرصة سعى بالإفساد في الأرض، وإذا نبه على ذنبه وخطئه شمخ بأنفه ونظر شزراً رافضاً الحق، وصدق الله العظيم حيث يقول: {ومٌنّ النَّاسٌ مّن يٍعًجٌبٍكّ قّوًلٍهٍ فٌي الحّيّاةٌ الدٍَنًيّا ويٍشًهٌدٍ اللَّهّ عّلّى" مّا فٌي قّلًبٌهٌ وهٍوّ أّلّدٍَ الخٌصّامٌ، وإذّا تّوّلَّى" سّعّى" فٌي الأّرًضٌ لٌيٍفًسٌدّ فٌيهّا ويٍهًلٌكّ الحّرًثّ والنَّسًلّ واللَّهٍ لا يٍحٌبٍَ الفّسّادّ، وإذّا قٌيلّ لّهٍ اتَّقٌ اللَّهّ أّخّذّتًهٍ العٌزَّةٍ بٌالإثًمٌ فّحّسًبٍهٍ جّهّنَّمٍ ولّبٌئًسّ المٌهّادٍ206} [البقرة: 204 - 206]. كذلك المتكبر يُحرم من العلم والنظر والاعتبار، ومن هنا كانت عاقبته الخسران والبوار، وما يدعو للدهشة هو كيف نسي هذا المتكبر بدايته الضعيفة، ونهايته المخيفة، كيف أغفل قدرة الله عليه وإحسانه إليه، فماذا بلغ به حب الشهرة، وماذا أوصل إليه التهالك في الشهوة. قال الأحنف رحمه الله: (عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر)، ورأى بعضهم متكبراً يجر ثيابه ويزهو بنفسه، فقال له: ما هذه المشية وما هذا الكبر الذي يبغضه الله؟ فقال: أما تعرفني، فقال: بلى أعرفك، أما أولك فنطفة مذرة، وأما آخرك فجيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. ويضيف الخضيري أن من البلاء والشقاء أن ينسى المتكبر أن كل نعمة وخير هو فيه هو من الله عز وجل وبتقديره سبحانه، فسواء تكبر من أجل قوته وسلطانه أو عمله وماله أو نسبه وجماله، فكل هذه هبة من الله وهي أغراض زائلة إلا ما أريد به وجه الله عز وجل، والمتكبر توعده الله بالعذاب الشديد والنار المؤلمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)، والعتل: هو الغليظ الجافي، والجواظ: المختال في مشيته والمتكبر على عباد الله، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال) رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عمر وصحيح سنن الترمذي 2025. ثلاثة لا يكلمهم الله ويزداد الكبر شناعة حين يكون من الفقير، قال صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولايزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر) العائل أي الفقير، مع مراعاة ان هناك فرقاً بين المهابة والكبر بينه أهل العلم فقالوا: المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور، ونزلت عليه السكينة، وألبس رداء الهيبة، فاكتست وجهه الحلاوة والمهابة، فأخذ بمجامع القلوب محبة ومهابة، فكلامه نور، وعمله نور، وسكوته وقار، أما الكبر فأثر من آثار العجب والبغي في القلب الممتلئ بالجهل والظلم ونزول المقت عليه، والمتكبر لا يزداد من الله إلا بعداً ومن الناس إلا صغاراً وبغضاً.