تحدَّثت في أكثر من مقال سابق عن هذا الحقد الدَّفين الذي يعشش في نفس الفرس تجاه أُمَّة العرب عامة، وأهل السُّنَّة والجماعة خاصة، وعن تلك الكراهية البغيضة التي تغلي في صدورهم كغلي الحميم تجاه كل ما هو عربي وسُنِّيّ، وعن رغبتهم الجامحة للانتقام من النهاوند والقادسية، وعن أضغاث الأحلام التي تراودهم ليل نهار لاستعادة مجدهم الغابر، ورد الاعتبار لأكاسرتهم الذين كسر العرب شوكتهم بعد أن دفنوا رؤوسهم تحت أنقاض قصورهم المنيفة. كما تحدثت بتفاصيل وافية عن تآمر الفرس ضد العرب وأهل السُّنَّة عبر مختلف الحقب: الدولة البويهية، الساسانية، الصفوية الشاهنشاهية والدولة الخمينية التي فاجأتنا بما عجز عنه الأوائل من أحلام تصدير ثورة مزعومة إلى العالم بأسره عبر بوابة العرب، ووصفت تعاونهم مع كل قوى الاستعمار التي داست خيلها الجامحة منطقتنا، لا سيَّما عراق الرشيد التي أعادت إليها الدولة الخمينية أيام الوزير ابن العلقمي والمولى نصير الدِّين الطوسي، يوم عُطِّلت المساجد، وقُتِّل الخطباء والأئمة وحفظة القرآن الكريم، حتى جرت الميازيب من الدماء في الأزقَّة، وتحولت بغداد التي كانت أكثر المدن أُنساً إلى خراب ينعق فيه البوم، ولا غرو في هذا، فقد جاء في رثاء الخميني لمعلميه ابن العلقمي والطوسي: (... ويشعر الناس بالخسارة أيضاً بفقدان الخواجة نصير الدِّين الطوسي والعلامة ابن العلقمي وأمثالهما ممن قدَّم خدمات جليلة للإسلام). وما زال العراق المنكوب يتجرع مرارة تلك الكأس الزعاف حتى اليوم، والله وحده أعلم متى يتعافى العراق من كيد الفرس، فيستعيد هويته العربية وعلاقاته الطبيعية بأمته العربية، فتعود الحياة إلى شارع الرشيد، وتفيض المياه على ضفتي دجلة والفرات، وتزهر الحقول من جديد. وعلى كل حال، سأقتصر مقالي اليوم على هذا الثمن الباهظ الذي يدفعه الإخوة الأشقاء في لبنان الجريح، وتلك الخسارة الفادحة التي يتكبدونها منذ عقود نتيجة هذا الحقد الفارسي الدَّفين، وتلك العقلية الخمينية المريضة التي أيقظت فتنة طالما كانت نائمة، فعليها من الله ما تستحق، فقبل أفول نجم الدولة الصفوية الشاهنشاهية، أرسل الشاه محمد رضا بهلوي، موسى الصدر عام 1958 إلى لبنان التي سبق أن زارها عامي 55 - 1957 في مهمة سريَّة لزعامة الطائفة الشيعية هناك، وأداء مهمة محددة على مستوى البلدان العربية بهدف شق صف المسلمين، وسلخ الشيعة العرب عن جلد أُمَّتهم، وإلحاقهم بالفرس في مواصلة سعيهم لاستعادة مجدهم الغابر الذي دثرت آثاره خيل العرب الجامحة في صدر الإسلام. والحق يقال: كان اختيار الشاه هذا موفقاً، فقد اختار فعلاً الرجل المناسب للمهمة المناسبة، فموسى الصدر هذا هو ابن (آية الله العظمى) (السيد) صدر الدِّين صدر، ويتصل نسبه ب (الإمام) موسى الكاظم الذي سُمِّي عليه تيمناً به، ولد الرجل في مدينة قم عام 1928، حيث تلقى تعليمه الأولي، ونال شهادة البكالوريوس في الحقوق الاقتصادية من جامعة طهران، ويتقن اللغات: الإنجليزية، الفرنسية، العربية وبالطبع اللغة الفارسية التي تُعدُّ لغته الأم، وهو رجل وسيم الطلعة، يُعنى كثيراً بهندامه ومظهره العام، ويختار كلماته بعناية في أثناء تواصله مع الآخرين.. كما يتقن فن توظيف الدِّين في السياسة؛ ولهذا كان يدرك جيداً أن الفعالية السياسية في عقيدة ما، ترتكز على قدرتها على تحويل الحواس والعصبية، أكثر مما تقوم على منطقها اللاهوتي، وقد تحدَّث الذين عرفوه عن قرب كثيراً عن تضلعه في الفقه وغزارة علمه الشرعي وحنكته السياسية وحكمته وسعة حيلته وذكائه وطموحه وشجاعته وعناده وقوة شخصيته، وبجانب هذا كله، فالصدر تلميذ الخميني ومعلم خامنئي، وقد جاء في بعض أوصاف الصدر حسبما وصفه عارفوه: خميني لبنان، غير أنه خميني مستنير. رجل غموض وألغاز، يوحي أكثر مما يوضح، ويقلق أكثر مما يريح. فيلسوف كبير وصاحب رؤية. الرائد الأول لإيران في لبنان. رجل ليس كالآخرين، وهو خطير. وفي عام 1963 حصل موسى الصدر على الجنسية اللبنانية بضغط شديد من شاه إيران محمد رضا بهلوي، ودعم قوي من الرئيس اللبناني فؤاد شهاب حتى يتسنى له العمل براحة واطمئنان. فكان الصدر هذا أبرز ستة أشخاص من (رجال الدِّين) المرموقين الذين أرسلتهم مراجع الشيعة في إيران بالاتفاق مع حكومة الشاه إلى حيث مواطن الشيعة في المشرق العربي وبلدان إفريقيا، لإيقاظ المشاعر الدينية واستغلالها في زعزعة الأمن والاستقرار، لتسود إيران المنطقة وتبرز في الساحة قوة عالمية يعمل لها العالم، لا سيَّما جيرانها في المنطقة، ألف حساب. وحقَّاً، كان موسى الصدر في لبنان أنجح رفاقه وأشهرهم وأبقاهم أثراً وأكثرهم نفعاً لطائفته ولبلاده الأصلية الدولة الصفوية الخمينية، بل قل نجح في مهمته أيّما نجاح، خاصة بعد أفول نجم الدولة الشاهنشاهية وخروج الخميني من قمقمه وتبشيره، بل قل تهديده العالم بتصدير ثورته المزعومة إليه، جاعلاً من لبنان (جمهورية إسلامية ثانية)، إذ دخل الصدر على اللبنانيين، لا سيَّما أبناء طائفته البسطاء السُّذَّج من خلال طائفة واسعة من أعمال اجتماعية خيرية وإنسانية هائلة، موَّلتها بلاده (إيران) بسخاء فريد، خدمة لمشروعها الإستراتيجي بتصدير الثورة وفرض الهيمنة على دول المنطقة، كجمعيات البر والإحسان، دور الأيتام، دور الفقراء والمسنين، مدارس محو الأميَّة، مدارس مهنية، جمعيات شؤون المرأة، مبرات آيات الفرس... إلخ. وقد خصَّص لتلك الأعمال ميزانية ضخمة، تفوق ميزانية بعض دول العالم الثالث، اتخذ منها الصدر سلَّماً يفضي به لتنفيذ مخططه السياسي الشيطاني، وهو النهج نفسه الذي يسلكه ما يُعْرَف ب (تنظيم الأخوان المسلمون) لدغدغة مشاعر البسطاء وكسب تأييدهم. سندان أمل: ففي عام 1969، أي بعد أحد عشر عاماً من وصوله لبنان في مهمته تلك، وبعد ثلاثة أعوام فقط من حصوله على الجنسية اللبنانية، ونجاحه في تهيئة بيئة مناسبة، دفعته ليردد في كل مناسبة تقريباً: (لبنان، وطنٌ نهائي لنا)، نجح الصدر في حمل مجلس النواب اللبناني لإقرار قانون تشكيل (مجلس شيعي أعلى)، ليتم الإعلان عنه في العام نفسه، ويصبح موسى الصدر أول رئيس له، ليضفي عليه أعضاء هذا المجلس الشيعي الأعلى لقب (إمام شيعة لبنان)؛ ثم أسَّس (حركة المحرومين)، ليؤسس بعدها عام 1974 منظمة عسكرية كانت سريَّة في بداية أمرها، أطلق عليها اسم (أمل) وهي اختصار لمفهوم (أفواج المقاومة اللبنانية). كما نجح الصدر أيضاً في تأسيس حلفٍ قويٍّ بين الشيعة وبين النصيرية في سورية، ولتسويغ وجود مثل هذه الميليشيات الإرهابية، اضطر الصدر للقول (تقية) إن هدفها هو دعم الجيش اللبناني ومحاربة إسرائيل في جنوب البلاد. وبعد أن استقر الأمر لموسى الصدر في لبنان، وطنه النهائي حسب زعمه، واطمأن إلى قوة تلك المنظمات العسكرية التي أسَّسها، شرع في تحقيق أهداف مهمته (المقدسة) وهو يسابق عقارب الساعة؛ فقلب ظهر المجن لحركة التحرير الوطني الفلسطينية (فتح) التي ساعدته قيادتها في تأسيس حركته العسكرية (أمل) وتدريب كوادرها وتسليحها ودعمها بالمال، فولغ بالتواطؤ مع النظام النصيري في سورية، بدعم من الكيان الصهيوني.. أجل، بدعم من الكيان الصهيوني وترتيب مع الأميركيين، ولغ الصدر في الدَّم الفلسطيني في مخيمات اللجوء بلبنان خدمة لأجندة دولة الاحتلال، وتصفية لأهل السُّنَّة، الذين أصبحوا بوجود الفلسطينيين هناك يشكلون نحو نصف السكان تقريباً، ولم يسلم من بطشهم الشنيع حتى المرضى في المستشفيات ودور المسنين، كما مثَّلوا بالجثث وتركوها في الشوارع والأزقَّة وتحت الأنقاض حتى تعفَّنت وتحلَّلت ونهشتها الكلاب، فضلاً عن نهبهم كل ما طالته أيديهم المجرمة الآثمة من سكان تلك المخيمات التي تحولت إلى خراب اضطر حتى البوم لكي يهجرها من شدَّة وحشتها وقوة رائحة الموت التي تفوح في كل شبرٍ منها، وحاصر أولئك المجرمون من نجا من القتل والتشريد حتى اضطر المحاصرون لأكل الأعشاب ولحوم الحمير والكلاب والقطط. بل أكثر من هذا: هدم إرهابيو تلك المنظمة العسكرية التي كان ياسر عرفات يرى فيها (أملاً)، المساجد والمنازل، وفجَّروا خزانات المياه، وقطعوا خطوط الكهرباء، وفعلوا بالفلسطينيين هناك من صنوف العذاب والتنكيل، ما عجز عنه حتى شارون وعملاؤه.. فعل الصدر هذا كله وغيره كثير مما تقشعر له الأبدان لكي يخلو الجو لأبناء طائفته خدمة لدولته الخمينية، فأذاق الفلسطينيين الأمَرَّين، مما حدا بعرفات لوصف تلك المأساة بأنها كربلاء جديدة، لكن بيد شيعية، ولهذا ستبقى لعنة مجازر صبرا وشاتيلا ونهر البارد وعين الحلوة وغيرها من مخيمات اللجوء الفلسطينية في لبنان، تلاحق (الإمام) الصدر وكل من تورَّط في تلك المجازر البشعة. وبجانب هذه المأساة المروِّعة، قدَّم الصدر خدمة عظيمة لأعداء أهل السُّنَّة والجماعة في لبنان من أجل إضعاف شوكة المسلمين وتعدَّد مرجعياتهم من خلال ارتباطه بزعماء أولئك المناوئين، وإنفاق المال بسخاء لا يعرف البخل والشُّح في شراء الذِّمم واستقطاب الشخصيات المؤثرة، وقدرته الخارقة على تجميع عناصر المعارضة في الجنوب، وحشدها ضد من يصفهم (الإمام) موسى الصدر ب (الأعداء)، بل ذهب أبعد من هذا، فنادى بوقف العمليات الفدائية وطرد الفلسطينيين من جنوبلبنان، وكان أول من طالب بقوات طوارئ دولية لحفظ الأمن في لبنان، ونجح في إقناع الجهات الدولية المختصة بأن يكون ضمن تلك القوى قوات من إيران، فكان ذلك بمثابة أول وجود عسكري حقيقي لإيران على التراب اللبناني. ألحقت حركة أمل هذا كله بالفلسطينيين وغيره كثير مما يشيب له الوالدان من هول ومآسٍ مفجعة، أشد وجعاً وألماً مما فعله اليهود الغاصبون بهم؛ مع أن عرفات كان يردد في كثير من المناسبات: (حركة أمل، نحن الذين دربنا عناصرها، ونحن أول من زودها بالسلاح، بل أنا من أسماها أمل، لأن الإمام موسى الصدر كان واقفاً معنا، وضد كل من يشهر السلاح ضدَّنا)، بل أكثر من هذا، أكد نبيه بري زعيم حركة أمل اليوم في أكثر من مناسبة أيضاً: (جاء في الميثاق الأساسي لحركة أمل: على العنصر الذي سينضم إلى حركة أمل، أن يحفظ الشعب الفلسطيني، وأن يقدِّس مقاومة الشعب الفلسطيني، وأن يعد تحرير الأرض الفلسطينية واجباً دينياً ووطنياً عليه). مطرقة حزب الله: وليت الأمر توقَّف عند هذا الحد، مع ما فيه من فجيعة مؤلمة ومأساة موجعة، إذ خرج من رحم حركة أمل هذه، التي كانت ممارساتها على النقيض تماماً من اسمها، جسم سرطاني أكثر تنظيماً وترتيباً وإعداداً وعدَّة وعتاداً، وأكثر كرهاً لأهل السُّنَّة والجماعة، وأكثر إخلاصاً ووفاءً من جهة أخرى لدولة الولي الفقيه، سمَّى نفسه تقية (حزب الله) لخداع السُّذَّج من أبناء أُمَّة الإسلام.. أقول، انشق عن حركة أمل هذه مجموعة من رموزها البارزين ليؤسسوا عام 1982 تنظيم (حزب الله) الفارسي الإيراني. وسرعان ما نشب بين (حزب الله) هذا وبين حركة أمل صراع عنيف تحوَّل أحياناً إلى قتال مسلح، مما اضطر الطرفان لتوقيع اتفاق غير معلن، تكون رئاسة المجلس النيابي اللبناني بموجبه لزعيم حركة أمل الذي يمثله نبيه بري منذ ثلاثة عقود تقريباً، فيما يكون قرار الطائفة الشيعية في لبنان بيد (حزب الله) الذي تحوَّل اليوم إلى دولة داخل الدولة، بل أقوى منها وأكثر تأثيراً في حياتها السياسية، وأكثر تحكماً في علاقاتها الخارجية، فأصبح ولاؤه كله لإيران حصراً، وهنا تكمن خطورته؛ لأن مركز قيادته الفعلية هو السفارة الإيرانية في لبنان. يضاف إلى هذا أن (حزب الله) يمثل العضو الأكثر أهمية في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، الذي يرأسه الولي الفقيه (المرشد) كما يُعَدُّ المسؤول الأول عن تنظيم العمليات الإرهابية الانتحارية في دول الخليج وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، ولهذا يتلقى دعماً سخياً من دولة الملالي في المجالات كلها، لا سيَّما السلاح والمال والدعم اللوجستي والتدريب الذي يشرف عليه أكثر من ألفي عنصر من عناصر الحرس الثوري الإيراني، ولهذا أيضاً يمكننا القول إنه مؤسسة إيرانية في ثوبٍ لبناني، وقد عبَّر عن هذا المعنى أحد قادته قائلاً: (نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران). وعليه فقد أصبح (حزب الله) هذا أكبر الأحزاب اللبنانية على الإطلاق وأغناها، حتى تلك التي مضى على تأسيسها أكثر من نصف قرن كحزب الكتائب.. كان هدف إيران من هذا كله، زعزعة استقرار دول المنطقة، وتوسيع نفوذها أبعد إلى ما بعد لبنان، وقد نجحت بالفعل في غفلة من الأُمَّة العربية للأسف الشديد، التي جعلت بأسها بينها شديد، فإيران موجودة اليوم بقوة في العراق التي قدمها لها الأميركيون على طبق من ذهب، مثلما هي موجودة في سورية واليمن، وبالطبع في لبنان الذي تحشرج صوته من كثرة الأنين بسبب شدة الألم، حتى أصبح أصحاب العمائم في إيران يتبجحون ساخرين، قائلين إنهم استولوا على أربعة عواصم عربية. هذا بالطبع غير خلايا إيران النشطة وتلك الخاملة في كثير من البلدان العربية، لا سيَّما في دول الخليج العربي، خاصة مملكة البحرين ودولة الكويت التي تعلن من وقت لآخر عن ضبط خلية من خلايا (حزب الله) تسعى حثيثاً لنشر الخراب والدمار ورائحة الموت، مستعينة بما يُهرَّب إليها من أسلحة ومتفجرات ومعدات وأموال، بل وأنا أكتب مقالي هذا اليوم، أعلنت كلٌّ من دولة الكويت ومملكة البحرين عن خلايا إرهابية تابعة ل (حزب الله) هذا، تتأهب لممارسة أعمالها الإرهابية ونشر الفوضى والموت والدمار، ومما هو معلوم بالضرورة، أن كيد (حزب الله) على بلادنا العزيزة الغالية، دولة الرسالة، لا يخفى على أحد، خاصة بسبب جهدها في عقد مؤتمر الطائف الذي وضع حدَّاً للفوضى التي غرقت فيها لبنان حتى أذنيها، لتستعيد سيطرتها على الدولة من جديد، فتقطع بذلك الطريق على قيام ما يُعْرَف ب (جمهورية لبنان الإسلامية). مما حدا ب (حزب الله) لكي يكشِّر عن أنيابه السَّامة النتنة لمهاجمة السعودية في مناسباته كلها تقريباً، بل يذهب أبعد من هذا بكثير جداً، فيوفر دعماً سخيَّاً للحوثيين في اليمن، حلفاء إيران للنيل من دولة الرسالة. وهكذا تعدَّدت الكيانات الإرهابية من منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، إلى حركة أمل، فالمجاهدون، منظمة الدعوة، منظمة العمل الإسلامي وغيرها؛ وكلها تتلقى دعماً غير محدود من (حزب الله). وهكذا أيضاً يكون (الإمام) موسى الصدر قد نجح في مهمته أيما نجاح، إذ أصبحت الطائفة الشيعية في لبنان التي تمثل ربع تعداد السكان تقريباً، تدين له بالولاء المطلق ولدولة الولي الفقيه، كما نجح تنظيم (حزب الله) في التحكم بسياسة لبنان الداخلية والخارجية من خلال تحالفه الوثيق مع النصيرية في سورية والمارونية والدروز في لبنان؛ وأصبح للفرس نفوذ واسع في لبنان، بعد أن استحال على اللبنانيين تقرير شيء في بلادهم بمعزل عن الشيعة الذين صاروا قوة ضاربة، فضلاً عن نجاح الصدر في القضاء على الاستقلال السياسي للفلسطينيين في العالم العربي كله تقريباً.. واليوم، يعاني لبنان الجريح عزلة شبه تامة عن محيطه العربي، لا سيَّما عن دول الخليج العربي، نتيجة مراهقات (حزب الله) السياسية الخرقاء الطائفية العميلة. ومع هذا كله، يبقى الأمر الأكثر ألماً: إعلان بعض ممثلي النظام العربي الرسمي، انحيازهم التام لإيران بكل بجاحة، وتأييدهم لها، بل وصلت الصفاقة بأولئك لدعم إيران بالسلاح العربي وتمويلها بالمال العربي لطعن الأُمَّة العربية في خاصرتها. فهل يا ترى يتَّعظ أولئك بما حدث للفلسطينيين الذين قدَّموا للشيعة في لبنان كل دعم ممكن، وأيَّدوا الخميني صراحة جهاراً نهاراً؟ بل كانوا يتفاخرون بذلك، إذ كان قائدهم (عرفات) أول من طار إلى طهران لتهنئة الخميني بنجاح ثورته المزعومة المشؤومة، مؤكداً لأصحاب العمائم: (إن ثورة إيران ليست ملكاً للشعب الإيراني وحده، إنها ثورتنا نحن أيضاً، إذ نُعِدُّ الإمام الخميني ثائرنا ومرشدنا الأول الذي يلقي بظله، ليس على إيران فحسب، بل على الأماكن المقدسة والمسجد الأقصى في القدس). وقد صدق عرفات وعده، فمثلما أخلص من قبل لموسى الصدر في تأسيس حركة أمل، ثم تعاون لاحقاً في دعم (حزب الله)، ساعد أيضاً الخميني من قبل في تدريب أعداد كبيرة من الإيرانيين الذين شكلوا نواة الحرس الثوري وضباطه وقادته، بل كلنا يعلم أن القائد الفلسطيني عرفات كان خمينياً أكثر من الخمينيين أنفسهم عندما أرسل للخميني في باريس من يحرسه بعدما طرده صدام حسين من العراق قبيل تفجير الثورة الإسلامية الخمينية؛ ليتنفس عرفات الصعداء في آخر المطاف بعد ربع قرن من التَّذلل للإيرانيين ليؤكد للجميع: (لقد أخطأنا في حسن ظننا بإيران الثورة، كما أخطأنا في دعم حركة أمل الشيعية). وعلى كل حال، ربَّما يكون ما سردته بإيجاز هنا هو مجرد غيض من فيض، وقطرة من بحر.. ولهذا تبقى الحقيقة الكاملة غائبة في صدر (الإمام) موسى الصدر الذي اختفى عام 1978 بين روما وطرابلس الغرب بصحبة مرافقيه، قبيل وصول الخميني إلى طهران، والعجيب الغريب، أن اختفاء الصدر ما زال يُعَدُّ لغزاً حتى اليوم، وقد قيل فيه من باب التَّهكم والسخرية: ربَّما أكله الذئب هو ورفيقيه والليبيون عنهم غافلون، بل ربَّما يوحي هذا الهلال الشيعي الذي يمتد اليوم من طهران إلى جنوبلبنان عبر دمشق، الذي يعود الفضل في تأسيسه ل (الإمام) موسى الصدر، بشيء من تلك الحقيقة الكاملة لكل من يتقن فن قراءة ما بين السطور جيداً.. ويبقى لبنان على رأي كثير من الإخوة اللبنانيين أنفسهم: بلد العجائب والغرائب، إلى حين تحريره من مطرقة (حزب الله) وسندان حركة أمل.