سقراط يُمثّل الصوت الذي يُنادينا إلى مراجعة ما نحن عليه من مفاهيم وأفكار، وهي مراجعة قضت بها حياتنا الجديدة، ودعتنا إليها الأجواء العصريّة، ومثلما كنّا نذهب إلى الطبيب الشعبي، نصطبر لكيّه، ونتعالج بأخلاطه، ثم تركناه وتخلّينا عنه، وأخذنا بالأمصال الحديثة.. لا يكتب الإنسان عن شيء سُدى، ولا يعرضه بلا سبب، يدعوه إليه، ويحضّه عليه، وهذا هو شأني مع الفلاسفة، ومنهم سقراط، فلي من وراء تقديمهم هدفان: الأول: إبراز ما يدعو غيري إلى مطالعة آثارهم والانتفاع بما فيها. والثاني: استجلاب ما كانوا عليه، مما يُفيد مرحلتنا التي نعيش فيها، ويُعين على إحداث الأثر الذي نسعى إليه فيها. وليس يبعد أن يكون كثيرٌ من المهتمين في الفلسفة منذ سُنيّات وشهور، خاصة أولئك الذين لم يكن لهم بها شأن يُذكر، كان هدفهم من وراء ذلك كله هو التغريد بما يُغرّد به المحيط، والحديث بما الناس مشغولون به، فهم لو أدركوا قيمة الفلسفة والفلاسفة قبلُ، ووقفوا على ذلك منهما؛ لكانوا سبقوا الناس إليهما، وحدّثوهم عنهما، فكان لهم بذلك فضل السبق وجزاء الريادة، وهم على مثل ذَيْنِ حريصون، ولكنّهم غفلوا عن ذلك، أو تغافلوا عنه بغيره، ثم انتبهوا بعد أنْ تنادى الآخرون إلى الحديث عنهما، فبادروا إلى ما سُبقوا إليه، وليس لهم فيه هدفٌ، ولا تحفزهم إليه غاية، إنّما هو الدخول مع الجمهور في ما دخل فيه، والحديث عمّا تحدث عنه، ولعل الفيلسوف هربرت سبنسر أرادهم بقوله حين تحدّث عن المعارف وطُلّابها: "إنما نهتمّ بما كان منها ضامناً لاستحسان العالم وإجلاله لنا وتشريفه إيانا، وما كان أجلب للنفوذ والمنزلة، وما كان أشد روعة في النفوس واستخفافاً لها، وكما أنّ الإنسان لا يهمّه في حياته حقيقة نفسه وقدرها، بل يهمه رأي الناس فيه، ومقدارُه في نفوسهم..." (سبنسر، التربية). هذه الطائفة من المتحدثين عن الفلسفة، وهم غير قليل وبعضهم من الرموز، يضعف عندهم الهدف، وتغيب عنهم الغاية، وهم وإن أَلَمّوا بما يُقنع بخطابهم، ويجعل له في الجمهور قبولاً، يبقى سؤال تأخرهم في الحديث ماثلاً أمامهم، مثيراً حول اهتماماتهم الجديدة الأسئلة الكثيرة، خاصة أولئك الذين عُرف عنهم مُخاصمة السائد ومُحادّة المألوف وكانوا لا يألون جهداً في الصدام ومنابذة فاشي الأفكار! كيف غاب عنهم أن يتّخذوا الفلسفة وروّادها سلاحاً من أسلحتهم وميداناً من ميادين أحاديثهم؟ هذه الطائفة يغلب على الظن ذهاب الغايات عليها، وخفاؤها عنها، وهو أمر دلّ عليه حالهم مع الفلسفة والفلاسفة، إذْ لو كانت الغايات داعيتهم إلى الحديث، وحاثّتهم عليه؛ ما كانوا تأخروا فيه، وجاؤوا بعد أن وطأت أقدام غيرهم سبيله. الهدف الأول من الهدفين المذكورين أولاً، أرجو أن يكون ما تقدّم من حديثي عن سقراط، وما سيأتي إن شاء الله في أفلاطون وأرسطو؛ مُحققاً ما أصبو إليه، وقاضياً حقّ القراء عليّ فيه. والهدف الثاني، وهو الوجه الذي أردته منهم، وما كتبتُ إلا مدفوعاً به، هو أن نأخذ ما يليق بمرحلتنا من أولئك الرجال، وننتفع به، ونُعيد تنسيق ثقافتنا في ضوئه. والحكمة المنهجية التي أراها عوناً لنا في هذه الأزمان عند سقراط، هي مهارته الفائقة في استنطاق الألفاظ والبحث عن معانيها ومحاورة الآخرين فيها، والبعد عن الإخلاد إلى المعهود منها والمستقرّ فيها، فما أكثر المصطلحات في ثقافتنا الإسلامية التي يجب علينا أن نُواجهها بمثل ما كان الأستاذ يصنع مع مصطلحات زمانه وأهله، فنُعيد الحديث حولها من جديد، ونفتح باب التفكير فيها، ونطرح الأسئلة حول مراد الأولين منها. سقراط يُمثّل الصوت الذي يُنادينا إلى مراجعة ما نحن عليه من مفاهيم وأفكار، وهي مراجعة قضت بها حياتنا الجديدة، ودعتنا إليها الأجواء العصريّة، ومثلما كنّا نذهب إلى الطبيب الشعبي، نصطبر لكيّه، ونتعالج بأخلاطه، ثم تركناه وتخلّينا عنه، وأخذنا بالأمصال الحديثة، وزرنا المشافي الجديدة، فكذلك نحن مع المصطلحات الموروثة ودلالاتها، فكثير من مفاهيم تلك المصطلحات اصطبغت بحالنا الأولى، وتشرّب منها المعنى، وهي حال لم نكن فيها مُطّلعين على غيرنا، وعارفين بما عنده، واليوم حالنا وحال المسلمين في بقاع الأرض مختلفة جداً، لقد كان المسلمون في كل بقعة، يستمعون إلى علمائهم، ويُنصتون إليهم، وليس لهم سواهم، وفي هذا العصر يُلقي الشيخ خطبته، ويُدلي بفتواه، والمسلمون من غير بلده مستمعون إليه، ومنتظرون قوله، وهي حال تدعو المسلمين إلى البدء في مرحلة جديدة، تُصاغ فيها المفاهيم حسب الجمهور الإسلامي العريض، ويُنتبه فيها إلى كلّ ما يُعكّر صفو الأخوة، ويُقلق شأنها، فثمّ مقام جديد، هو في حاجة إلى مقال جديد، وقد قال الناس قبلنا: لكل مقام مقال. وأضرب على هذا مثلاً بمصطلح (الفقيه) الذي أضحى في العصور المتأخرة يحمل طابع المذهب أكثر من حمله طبيعة الفقه، ويُشير حين سماعه إلى فقيه ينتصر لمذهبه، ويردّ غيره، ومثل هذا الفقيه لا يُمثّل الفقه في سعة أُفقه واندياح مذاهبه، ولا يُمثّل هذا العصر وسياقه الذي نحن فيه، وحريّ بما كان هكذا أن يُطرح على بساط سقراط حتّى يُنخل ويُصاغ منه معنى جديد لعصرٍ جديدٍ وأهله.