في ظل كثافة الإصدارات الروائية وفي ظل تكاثر كتاب السرد نجد الأصوات السردية المميزة وتعتبر الروائية الليبية نجوى بن شتوان من أبرز تلك الأصوات النسائية في الرواية العربية وقد أكدت هذا التميز في روايتها زرايب العبيد. وعن آخر إصداراتها كان هذا الحوار عن روايتها الصادرة حديثا بعنوان روما تيرمني. * في روايتكم زرايب العبيد وجدت أن اللغة تلعب دورا كبيرا في النص بينما في روما تيرمني كانت اللغة مختزلة وقائمة على الحوار، كيف تجدين هذا التعاطي المختلف مع اللغة بين رواية وأخرى من رواياتك؟ * الحوار هو استخدام للغة، وطبيعة العمل هي ما تملي هندسته بالشكل الذي يظهر به، فما اللغة إلا عنصر من عناصر بناء العمل الروائي، كالألوان بالنسبة للرسام البذخ أو الاقتصاد في استعمالها في مكان ما من اللوحة تفرضه مساحة العمل، في روما تيرمني هندسة الرواية شبيهة ببيئتها، فالإيطاليون محبون للكلام ومن الأنسب لرواية تدور عن شخصيات إيطالية أن تشبهها، لذا قلصت دور السارد العليم ومنحت قدراً كبيراً من اللغة للحوارات حتى تتحدث جميع الشخصيات في الرواية بأكبر قدر ممكن «مسرحة الرواية». لدي مشروع كتابة عن ليبيا * برغم أن مأساوية أحداث الرواية إلا أن الكوميديا السوداء في الرواية لافتة وحاضرة في الرواية وخصوصا في شخصيات العجائز، كيف تقرئين هذه المفارقة؟ * الكوميديا السوداء هي ذروة ما يصل إليه أمر ما حين يتفاقم، دلالة بليغة على أن الحالة لم تعد عرضية، إنها سرد عكسي للحالة، العالم يهرم بين فترة وأخرى والأيديولوجيات القديمة (الرأسمالية/ الاشتراكية) التي صاغته لم تعد صالحة لإنسان الحاضر، هناك حاجة لأن تتحدث الحياة ولن تتحدث إلا بموت النمط القديم، تبلى الأنماط خلال استعمالها، تموت ببطء لكنها في المرحلة الأخيرة من موتها تموت بشدة لا بهدوء، ثورات، حروب، كوارث طبيعية، إفلاس، أوبئة، كورونا لتهيئ المجال للجديد، أوروبا الحالية بشقيها الرأسمالي والاشتراكي متهالكة لن يفيد تشبث الأشياء الهرمة بالحياة وهنا تبدو دلالة الهزات الأرضية والزلازل في الرواية، إنها لا تشير فقط إلى الظاهرة الطبيعية عينها التي تعيشها بوابة أوروبا «إيطاليا» من حين لآخر بل تأخذ بعداً رمزياً يشير لضرورة تحديث النظام، تأتي الكوميديا لتقول ذلك بطريقة تنفر التنظير. * زرايب العبيد تعالج قضية العبيد والأسياد ورواية روما تيرمني تعالج قضية المهاجرين في أوروبا هذا النوع من الروايات ألا تعتقدين بأن القارئ يقرؤه كوثيقة حقوقية وليس كعمل أدبي ممتلئ بالفن السردي؟ * يتوقف ذلك على النية التي يقرأ بها القارئ عملاً ما، على غايته من القراءة، ماذا يروم من الكتاب الذي يقرؤه وماذا يروم من فعل القراءة نفسه؟ من يقرأ «دكتور جيفاكو» على سبيل المثال بنية اتخاذها وثيقة تاريخية لروسيا ما قبل الستالينية وما بعدها سيجد طريقة يطوع بها الرواية لنيته، ومن يقرؤها بنية سينمائية سيجد فيها ما يطاوعها للسينما والتلفزيون، ومن يقرؤها بنية القراءة سيحظى برائعة أدبية بمذاق لا يمكن نسيانه، لا أستثني من ذلك نية القراءة بنية النقد الأدبي ونية القراءة بنية الحقد الأدبي، القراءة الباحثة عن الجماليات والقراءة الباحثة عن شيء تدينه. القصص الملهمة تفرض نفسها * لماذا كان اختيارك لبطلة العمل شخصية فتاة من أوكرانيا وليس عن مهاجرة عربية، وهذا الاختيار ماذا أضاف من رؤية مختلفة لهوية العمل؟ * القصص تفرض نفسها عليّ عندما تأتي بإلهامها، سيدة أوكرانية تبيع الخضار في الحي الذي أسكنه في روما هي التي ألهمتني شخصية ناتاشا، كنت أتبادل معها الأحاديث كلما مررت للشراء، قدر شخصية ناتاشا حملته لي تلك السيدة من أوكرانيا ولم تحمله مهاجرة عربية أو إفريقية، لن أسبح عكس الإلهام، كنت قبلها قد جلست في غرفة اعتراف داخل كنيسة قديمة في ضواحي روما وتحدثت مع نفسي واعتقدت أنني سأكتب رواية عني أو سأكتب سيرتي الذاتية، ثم حين غادرت القرية وغدوت في محطة القطار أتت سيدة عجوز وأمطرتني بالأسئلة حتى ظننت أنها تجمع معلومات ربما لكتابة قصة عن مهاجرة عربية، ولما سألتها سؤالاً وحيداً رفضت الإجابة عنه. من أين أنت سيدتي؟ قالت: لا أستطيع أن أخبرك، اعذريني» وصعدت القطار حالاً. تلك العجوز الغريبة كأن مروري بها كان لأجل أن تمنحني شخصية لوتشيا وتختفي بالحقائب التي تحملها ولا أراها ثانية إلا في روما تيرمني، على هذا النحو جمعت أجزاء الحكاية في روما تيرمني مستثنية المهاجرين العرب. * ناتاشا الفتاة الأوكرانية وهي تمثل الرق في شكله الجديد هل هي امتداد لشخصية تعويضه في زرايب العبيد؟ * الرق امتداد للرق، رق أسواق العمل السوداء وعقود العمال غير العادلة هي الشكل الحديث للعبودية، ناتاشا في روما تيرمني هي امتداد لنظام الرق القديم الذي استعبد تعويضه وسواها وليست امتداداً حرفياً لتعويضه ذاتها. * البعد الإنساني في شخصية تعويضه كان حاضرا ويتعاطف معها القارئ بينما ناتاشا كانت براغماتية جدا والتعاطف معها أقل، كيف تفسرين هذا التباين في كتابة الشخصيتين؟ * ربما يتعاطف مع «ناتاشا» قارئ براغماتي أو ميكافيللي أو قارئ عايش فقر الأنظمة الشيوعية والاشتراكية (وما في حكمها) وتضرر كذلك من تغول الرأسمالية وانتهازيتها حين انتقل إليها، فأجبره الوقوع ما بين التروس على أن ينشد خلاصة الخاص بأي ثمن. يظل عدم التعاطف شعوراً هو الآخر وإن كان سالباً، إن حظيت به ناتاشا فهذا دليل على أن شخصيتها في الرواية كتبت بشكل جيد، أما شخصية تعويضه في زرايب العبيد فهي التي كتبتها نجوى بن شتوان المختلفة عن نجوى بن شتوان التي كتبت روما تيرمني كما أشرتم في مستهل الحديث. * هذه الرواية هل هي للقارئ العربي أم للقارئ الأوروبي بشكل عام والإيطالي بشكل خاص؟ * هذه الرواية لأي إنسان كغيرها من الروايات التي قرأناها والأفلام التي شاهدناها والفنون التي تمكنا من الاطلاع عليها، لم يكتب عليها صنع من أجل شعب أو قومية أو أمة بعينها. الأدب حر في التوجه لمن يبحث عنه، والقارئ الإنساني موجود في كل مكان وزمان منذ لحظة صناعة العمل وحتى لحظة تلقيه، إن نسختك من رواية ماتعة كتبت في الكاريبي أو أرياف الصين أو على شواطئ سيشيليا هي روايتك التي كتبت من أجلك وإن بلغة أخرى، وهي في الوقت عينه رواية آخرين تعددت لغاتهم وجنسياتهم. أما عن كون روما تيرمني رواية عن إيطاليا بقلم كاتبة غير إيطالية فقد حدث وأن كتب كتاب من جنسيات مختلفة عن بلاد ليست ببلادهم ولم يعني ذلك أن رواياتهم كانت موجهة لجنسية البلاد التي كتبوا عنها، وإلا ما قولك في رواية «الأرض الطيبة» التي كتبتها كاتبة أميركية «بيرل باك» عن المجتمع الزراعي في الصين. و»كوابيس بيروت» التي كتبتها كاتبة سورية «غادة السمان» عن الحرب الأهلية اللبنانية و»الطاعون» التي كتبها ألبير كامو الفرنسي عن الجزائر ولم يخص بها القارئ الجزائري فقط. وماذا عن الروايات التي تخطت بيئتها وانتشرت في العالم، هل تراها كتبت من أجل قارئ محلي أو إقليمي أو عالمي! تتخطى الفنون والآداب محددات الهوية والجغرافيا والنوع وخلافها، لأنها منتج إنساني جوهره حر. * لماذا حضرت شخصية الباحثة العربية في مشهد وحيد، وماذا أضاف هذا الحضور للنص؟ * ربما يكون مرورها مرور الكرام أو كمرور ذاك الرجل الذي شوهد في أفلام هيتشكوك أكثر من 36 مرة دون أن يعرف أحد سببًا لتواجده فيها، وقد تكون سؤال قارئ حصيف عمن كتب الرواية (الباحثة العربية - بينا سترازا - ناتاشا) أو استثمارا لسرد قادم أو مجرد مهاجرة في الظل كادت لتكون هي جوهر الحكاية لو أنه حدث كذا وكان كذا. * برغم محبتك للنص اللاتيني وأدب أميركا الجنوبية وربما كان مكون من مكونات ثقافتك إلا أنني لا ألمس هذا التأثر في أعمالك الروائية، هذه المسافة بينك وبين المقروء كيف تفسرينها كروائية لها أسلوبها الخاص في الكتابة؟ * ليكون للإنسان بصمته الخاصة يجب أن يتدرب على خلق المسافة بينه وبين ما يحبه ويلامس روحه وعقله، الصيام عما أحب والتدرب على إيجاد أسلوبي الخاص هو الذي أوصلني لمنطقة «النجاة بمحبة» أي أنني أستطيع بسهولة أن أحب أبي من دون العيش في جلبابه. * في السوشل ميديا أنتِ مهتمة بالشأن الليبي وما يحدث فيه من متغيرات لكن وجدنا في نتاجك الروائي تذهبين إلى المهاجر الأوروبي، وقبل ذلك ارتحلتِ إلى الماضي البعيد في زرايب العبيد. هذا البعد عن كتابة اللحظة الراهنة الليبية بماذا تفسريه؟ * ليبيا ملهمتي وملتهمتي، فبين زرايب العبيد وروما تيرمني كتبت (صدفة جارية) وهي مجموعة قصصية تحكي ليبيا خلال العشرية السوداء في أكثر من ثلاثين قصة، وصلت المجموعة للقائمة القصيرة في جائزة الملتقى للقصة القصيرة في الكويت، وستصدر في ترجمتين ألمانية وإنجليزية. إلى ذلك لدي مشروع كتابة عن ليبيا سأتحدث عنه في آوانه. * بشكل عام كيف تجدين الرواية الليبية في الألفية الأخيرة وهل تماهت مع يحدث في الشأن الليبي؟ * لا أستطيع تكوين رأي موضوعي حولها، أنا مذ غادرت ليبيا لا أستطيع الحصول على مجمل الأعمال الصادرة هناك. * رواية «روما تيرمني» صالحة لأن تكون فيلما سينمائيا هل هذا الخيار حاضر في ذهنك؟ * لم لا إذا تقدم لها مخرج فذ ك «هيفاء المنصور» أو «نادين لبكي» مثلاً.