الملك سلمان يرفع شعار «ادفع ريالاً تنقذ عربياً» رداً على «ادفع دولاراً تقتل عربياً» لم تغب القضية الفلسطينية منذ نشأتها عن بال ملوك المملكة منذ عهد المؤسس جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود - طيب الله ثراه -، حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان، حفظهما الله. الملك سعود: فلسطين للعرب والقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين تفرد الموقف السعودي إزاء القضية الفلسطينية من حيث الثبات والاستمرارية على مدى أكثر من مائة عام، وتقديم كافة أشكال الدعم للقضية والشعب الفلسطيني دون انقطاع طيلة هذه الفترة الزمنية الطويلة - حتى قبل اكتشاف النفط - يشكل ظاهرة لافتة في التاريخ العربي المعاصر سيسجلها التاريخ بأحرف من ذهب. ويلاحظ أن الدعم السعودي لم يقتصر على القضية الفلسطينية فقط، وإنما ظل يشمل كافة قضايا الأمة منذ بداية التأسيس، حيث دعم القائد المؤسس القضية السورية والقضية اللبنانية حتى نال الشعبين الشقيقين الاستقلال، وقدمت المملكة الدعم للثورة الجزائرية منذ اندلاعها عام 1954م، وكذا كان الأمر أيضًا في دعم الشعب الأفغاني عندما تعرض للغزو السوفييتي عام 1979م، وفي دعم شعب البوسنة والهرسك في حربه (حرب البوسنة) التي بدأها الصرب عام 1992م. خطاب الملك فيصل الأممي مرافعة تاريخية في الدفاع عن القضية الفلسطينية كما تحتل المملكة مكانة بارزة في تقديم المساعدات المادية والإنسانية والتنموية والخيرية، ليس فقط على صعيد الشعب الفلسطيني، وإنما أيضًا لكل دول العالم التي تتعرض للزلازل والكوارث والمحن والأعاصير والفيضانات... إلخ، وذلك دون تمييز على أساس لون أو دين أو عرق. وكانت المملكة دوماً من أكبر عشر دول في العالم تقديماً لهذه المساعدات. الملك سلمان: لا حل دون دولة فلسطينية عاصمتها القدس من جهة أخرى تعد المملكة من أكبر الدول في تنظيم حملات التبرعات لدعم القضية والشعب الفلسطيني - إضافة إلى الدعم المالي الحكومي السخي - وأيضًا من أكبر الدول المانحة والمتبرعة للأونروا منذ إنشائها (أي الأونروا) في ديسمبر 1949م. وتسلط هذه الدراسة الأضواء على مسيرة الدعم الحافل بالعطاء الذي قدمته المملكة للقضية والشعب الفلسطيني - إنما بشكل مختصر - منذ عهد القائد المؤسس حتى الآن. المملكة سخرت علاقات الصداقة التاريخية مع الغرب لصالح القضية الفلسطينية ظلت القضية الفلسطينية بعد وفاة الملك عبدالعزيز عام 1953م - رحمه الله - تشكل هاجسًا مشتركًا لدى أبنائه من بعده الذين حملوا على عاتقهم عبء هذه الأمانة وتبعاتها دونما أي تفريط أو تقصير. موقف الملك سعود بن عبدالعزيز صرح جلالة الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله - للكاتب الأميركي المناهض للصهيونية ألفريد ليلينتال (كتابيه: ثمن إسرائيل، وهكذا يضيع الشرق الأوسط) خلال زيارته للمملكة عام 1954م تلبية لدعوة وزير الإعلام حينذاك (عبدالله بالخير) بالقول: «أحب أن أقول لك وأنا صادق فيما أقول: إن الملايين من العرب والمسلمين يتمنون أن يضحوا بدمائهم في سبيل حماية المسجد الأقصى وأرضه المباركة من الصهيونيين، وإن هذا آت لا ريب فيه ولا جدال، طال الزمان أم قصر، ففلسطين للعرب، وهي في نظرهم ونظر المسلمين أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وجزء لا يتجزأ منهما»(19). الملك خالد: التعدي على الأمة الإسلامية وانتهاك مقدساتها تنكّرٌ للأعراف والقوانين والمواثيق الدولية موقف الملك فيصل بن عبدالعزيز لجلالته مواقف وأقوال مأثورة لا تنسى حول القدس، ويكفي أن اسمه أصبح يعرف لدى جموع الأمة مقرونًا «بشهيد القدس». ومن أقواله المأثورة في هذا المجال: «إن القدس الشريف يناديكم، ويستغيث بكم لتنقذوه من محنته، وما ابتلي به. فإلى متى ننتظر مقدساتنا وحرماتنا تنتهك بأبشع الصور، فماذا يخيفنا؟ وهل نخشى الموت؟ وهل هناك موتة أفضل وأكرم من أن يموت الإنسان مجاهدًا في سبيل الله؟»(20). وللفيصل - يرحمه الله - مواقف زاء القضية الفلسطينية تسجل له بماء من الذهب، منها: * خطابه في الأممالمتحدة في 26 نوفمبر 1947م الذي يعتبر أقوى مرافعة في الدفاع عن القضية الفلسطينية في تاريخ الأممالمتحدة. الملك فهد يرفض قرار ضم القدس ويطرح مشروع تسوية شاملة وعادلة * لقائه بديغول عام 1967م الذي أسفر عن إقناع الرئيس الفرنسي بعدالة القضية الفلسطينية. * رفضه زيارة النيجر عام 1967م خلال جولته في العديد من البلدان الإفريقية رغم تلقيه دعوة من رئيسها، ورده على رئيسها بقوله: إن «بلدًا إسلاميًا يرفع علمًا إسرائيليًا في سيمائه لا تطأه قدمي فيصل». عندئذ أبرق الرئيس النيجيري للفيصل مجددًا الدعوة: «لقد أغلقت النيجر السفارة الإسرائيلية على أرضها، فأهلاً بجلالتكم». * غضبته العارمة على إثر محاولة الصهاينة حرق المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969م، ودعوته لعقد مؤتمر إسلامي أسفر عن قيام منظمة المؤتمر الإسلامي (مؤتمر التعاون الإسلامي الآن). الملك عبدالله: كرامة الفلسطيني أمانة في عنق كل عربي ومسلم وقضيته لا تقبل المناورة والمساومة موقف الملك خالد بن عبدالعزيز في مقابلته مع صحيفة «الصنداي تايمز» البريطانية عام 1401ه قال جلالته - رحمه الله -: «صحيح إن مؤتمر جنيف هو الأمل الأخير لإحلال السلام، ولكن بشرط أن تمثل فيه منظمة التحرير الفلسطينية، مع ملاحظة أنه طالما أن إسرائيل ماضية في غيها وغطرستها، وغير عابئة بقرارات الأممالمتحدة، ومتجاهلة للرأي العام العالمي، فإن احتمالات التسوية السلمية تبدو بعيدة المنال، ويتحتم على منظمة الأممالمتحدة أن تفرض العقوبات الصارمة الواردة في ميثاقها على إسرائيل»، وأضاف: «إن على الولاياتالمتحدة أن تختار بين مصلحتها مع العرب أو مع إسرائيل». وعندما جاء أبو عمار وأبدى للملك خالد إشارة عن حاجته إلى مزيد من الدفع، أمر الجهات المختصة بأن تدفع المزيد. فجاء الجواب بأن الالتزامات الجارية دفعت بكاملها للفدائيين، فقال جلالته: «ادفعوا خمسة ملايين دولار وقيدوها ضمن حسابي الخاص»، فدفعت.(21) وفي حديث لجلالته - رحمه الله - مع وكالة الأنباء السعودية (واس)، قال: «لقد تمكنت الصهيونية في غفلة من المسلمين وضعفهم من احتلال فلسطين، وأجزاء من دول عربية إسلامية مجاورة لها، وقد جرى ذلك تحت سمع العالم وبصره. إن هذا التعدي على الأمة الإسلامية والانتهاك لحرماتها ومقدساتها، هو تحد لكل خلق، وتنكر لكل الأعراف والقوانين، وانتهاك لكل المواثيق والعهود الدولية». وأن تحرير فلسطين، وفي مقدمتها القدس الشريف- هي قضية جميع الدول والشعوب الإسلامية، وإن اجتماع قادة المسلمين في ظلال الكعبة المشرفة، ما هو إلا عهد وثيق من المسلمين على تحرير القدس». (22) موقف الملك فهد بن عبدالعزيز استمرت المملكة في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - في تقديم كافة أوجه الدعم للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. وكانت المملكة في مقدمة الدول التي استنكرت قرار الحكومة الإسرائيلية ضم القدس، عندما سارعت بإجراء اتصالات مكثفة عربيًا وإسلاميًا ودوليًا لمواجهة إجراءات الحكومة الإسرائيلية في ضم القدس، وتعاونت مع الدول الإسلامية حتى صدور قرار مجلس الأمن رقم رقم 478 عام 1980م الذي يطالب جميع الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية لها بالقدس بسحبها فورًا. وفي فبراير 1994م صدرت توجيهاته إلى أخيه سمو أمير منطقة الرياض - في ذلك الوقت - الأمير سلمان بن عبدالعزيز لرعاية حملة تبرعات شعبية على مستوى جميع مناطق المملكة يخصص ريعها وإيرادها لأغراض إعمار وإنقاذ الأماكن المقدسة في القدس الشريف.(23) واقترن عهد الملك فهد بتصوره للتسوية الشاملة العادلة لحل قضية الشرق الأوسط فيما عرف ب «مشروع الملك فهد للسلام ذي النقاط الثماني»، التي تحولت فيما بعد إلى مشروع السلام العربي الذي تبنته قمة بيروت العربية في ربيع العام 2002م. وتمثل اهتمامه بقضية القدس بإصدار تعليماته لترميم وإصلاح مساجد القدس وفي مقدمتها قبة الصخرة. موقف الملك عبدالله بن عبدالعزيز لعل مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للسلام حينما كان ولياً للعهد والتي تبنتها قمة بيروت العربية في محرم 1423ه/ مارس 2002م لتحقيق السلام العادل مقابل الانسحاب الكامل تعد خير دليل على حرص المملكة على التوصل إلى حل عادل وشامل ودائم للقضية الفلسطينية يضمن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة في حرب 67 بعاصمتها القدس الشريف، وهو ما تنص عليه هذه المبادرة، التي تعززها المرجعيات الدولية وقرارات الشرعية الدولية. ومن كلمات جلالته التي تعبر عن موقفه إزاء القضية الفلسطينية قوله - رحمه الله -: «إنها قضية لا تقبل المداورة والمناورة، أو المساومة أو التضليل أو التمويه. أما كرامة الإنسان الفلسطيني فهي أمانة في عنق كل عربي ومسلم». وعند سؤاله حول القضايا الثلاث الأولى التي تحتل مساحة مفاوضاته مع الرئيس جورج دبليو بوش في أبريل 2005م أجاب: «الفلسطينيون والفلسطينيون والفلسطينيون». وتمخضت القمة العربية التي عقدت في مدينة نصر في أكتوبر 2000م على إثر اندلاع انتفاضة الأقصى عن صدور عدة قرارات بناء على مقترحات الملك عبدالله بن عبدالعزيز حينما كان ولياً للعهد تنص على إنشاء صندوقين أحدهما باسم صندوق انتفاضة الأقصى برأس مال قدره 200 مليون دولار يخصص للإنفاق على أسر الشهداء، والآخر باسم صندوق الأقصى يخصص له 800 مليون دولار لتمويل مشروعات تحافظ على الهوية العربية والإسلامية للقدس، مع استعداد المملكة المساهمة بربع المبلغ المخصص للصندوقين. إضافة إلى استعدادها بأن تتكفل بدعم 1000 أسرة فلسطينية من أسر شهداء وجرحى الانتفاضة. موقف الملك سلمان بن عبدالعزيز لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الفضل الأكبر بعد الله في رعاية أسر شهداء فلسطين منذ كان أميرًا لمنطقة الرياض، فإضافة إلى رئاسته للجان الشعبية لمساعدة مجاهدي فلسطين على إثر حرب 1967م التي امتدت مكاتبها لتغطي معظم المدن الرئيسة في المملكة بواقع 12 مكتبًا، من أبرز مظاهر الدعم المالي للشعب الفلسطيني ودعم صموده في مواجهة المحتل. وقد رفع حينذاك في حثه طلاب المدارس على التبرع لفلسطين شعار «ادفع ريالاً تنقذ عربيًا في مقابل شعار «ادفع دولارًا تقتل عربيًا» الذي كانت تروج له الصهيونية لجمع التبرعات في الولاياتالمتحدة ودول الغرب لمساعدة إسرائيل. ومن مظاهر اهتمامه بالقضية الفلسطينية منذ كان أميرًا لمنطقة الرياض حرصه على المشاركة في ذكرى الاحتفال في ذكرى انطلاقة فتح في الأول من يناير وإلقاء خطابًا بهذه المناسبة. ويذكر أنه في 1988م، أكّد الملك سلمان بن عبدالعزيز بصفته آنذاك رئيساً للجنة الشعبية لمساعدة الشعب الفلسطيني، أن المملكة لم تتخذ يوماً من الأيام موقفاً مؤيداً وداعماً للقضية الفلسطينية من أجل أن يأتيها الشكر والتثمين من أيٍّ كان على هذه المواقف المبدئية؛ لأن القضية بالنسبة للمملكة ليست مجرد قضية دولية عابرة، وإنما هي بالفعل قضيتها الأساسية والمركزية، ولذا ستبقى مواقف المملكة المسؤولة تجاه القضية الفلسطينية، معبرة بحق عن مواقف الأمة العربية ومصوّبة ومقوّمة لما يجب أن تكون عليه الرؤية العربية تجاه فلسطين الشعب والقضية، وأنها تأتي في سياق رؤية سعودية إستراتيجية راسخة وليست سياسة عابرة لذر الرماد في العيون. وفي عام 1989م، افتتح الملك سلمان حين كان أميراً للرياض آنذاك مبنى السفارة الفلسطينية في الرياض، ورفع العلم الفلسطيني على مبنى السفارة. وعندما صدرت تعليمات الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - في فبراير 1994م إلى الأمير سلمان بن عبدالعزيز - أمير منطقة الرياض حينذاك - برعاية حملة تبرعات شعبية على مستوى جميع مناطق المملكة يخصص ريعها وإيرادها لأغراض إعمار وإنقاذ المقدسات الإسلامية في القدس الشريف تحت مسمى «حملة إنقاذ القدس الشريف»، وجه سموه نداءًا بهذه المناسبة جاء فيه: «إن القدس تناديكم لتسارعوا إلى نجدتها وإنقاذها وإعمارها بما تجود به أنفسكم من مال، وتستنهض هممكم العالية التي عودتنا الاستجابة لكل دواعي الخير كلما دعاكم الضمير لنصرة قضية إسلامية، وهذا ىعهدنا بكم دائمًا». وفي 1997م، قلّد الرئيس ياسر عرفات، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسام نجمة القدس، تقديراً لجهوده الاستثنائية الخاصّة في دعم الشعب الفلسطيني، وذلك في حفل كبير في إمارة الرياض. وقد أكّد الملك سلمان بن عبدالعزيز، في عام 2017م، خلال القمة العربية الثامنة والعشرين في البحر الميت، أنه «يجب ألا تشغلنا الأحداث الجسيمة التي تمر بها منطقتنا عن تأكيدنا للعالم على مركزية القضية الفلسطينية لأمتنا». وجاءت تسمية خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - القمة التي عقدت في مدينة الظهران في منتصف أبريل 2018م بقمة القدس تتويجًا لموقفه التاريخي الراسخ في الدفاع عن هذه القضية. كما جاء تبرع المملكة لدعم الأوقاف الإسلامية بالقدس ودعم وكالة الأونروا، خلال تلك القمة بمبلغ 150 مليون دولار أميركي ومبلغ 50 مليون دولار للأونروا، تأكيدًا على استمرارية وثبات الموقف السعودي وما يوليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان من أهمية قصوى لقضية القدس. وبعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في ديسمبر 2017م، باعتراف الولاياتالمتحدة الأميركية بالقدس عاصمة لإسرائيل، أبدت المملكة أسفها الشديد جرّاء هذا الإعلان. وجاء في بيان صدر عن الديوان الملكي الأربعاء 6 ديسمبر 2017م: «لقد سبق لحكومة المملكة أن حذرت من العواقب الخطيرة لمثل هذه الخطوة غير المبررة وغير المسؤولة، وتعرب عن استنكارها وأسفها الشديد لقيام الإدارة الأميركية باتخاذها، لما تمثله من انحياز كبير ضد حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والثابتة في القدس، والتي كفلتها القرارات الدولية ذات الصلة، وحظيت باعتراف وتأييد المجتمع الدولي». إن أي إنسان فلسطيني يتمعن في كلمات الملك سلمان: «نحن كنا وما زلنا وسنستمر معكم... مع فلسطين وشعبها... إن قضية فلسطين عقيدة بالنسبة لنا، ونحن مع دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشريف». إن أي إنسان فلسطيني يتمعن في هذه الكلمات النابضة التي تلخص مسيرة دعم هذا البلد الطيب وقيادته المخلصة وشعبه النبيل لقضية الأمة المركزية، حيث تقبع القدس الشريف ثالث الحرمين الشريفين الذي وصفها ذات مرة بأنها الشقيقة الثالثة لمكة المكرمة والمدينة المنورة. كما لا بد من الإشارة إلى موقف سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي أكده بالقول الحاسم: «لا حل دون دولة فلسطينية عاصمتها القدس»، وفي رده على سؤال مراسل مجلة تايم الأميركية مارتين شولر: إلى أي مدى تتوافق مصالح السعودية مع مصالح إسرائيل؟. أجاب سموه: «لا يمكن أن تكون لنا علاقة مع إسرائيل قبل حل قضية السلام». وهو ما يذكر بسؤال الصحفية الأميركية باربرة وولترز للملك فهد بن عبدالعزيز: هل تطبّع السعودية مع إسرائيل؟ أجاب: إذا طبعت كافة الدول العربية، بمعنى أن المملكة ستكون آخر دولة عربية يمكن أن تطبّع مع إسرائيل. آلية المواجهة السعودية للسياسات الأميركية - البريطانية المنحازة لإسرائيل اهتم الملك عبدالعزيز بإقامة علاقات متوازنة مع القوى العظمى دون غلو ولا تفريط. وأبدى جلالته اهتمامًا خاصًا بإقامة علاقات قوية مع تلك القوى، وخاصة بريطانياوالولاياتالمتحدة الأميركية، نظرًا لما تحتلانه من مكانة وتأثير في السياسة الدولية. وبدأت العلاقات مع بريطانيا تأخذ شكلاً رسميًا بعد توقيع معاهدة دارين (1927م) التي اعتبرت بمثابة اعتراف رسمي بين الطرفين، كما دشنت العلاقات السعودية - الأميركية عام 1940م. ورغم متانة تلك العلاقات التي ظلت تربط بين الرياض وكل من واشنطن ولندن، إلا أن المملكة لم تتوانَ في أي وقت من الأوقات عن انتقاد سياسات الدولتين المنحازتين لإسرائيل، والاحتجاج لدى تلك العواصم لابتعادها عن اتخاذ مواقف تتسم بالتوازن إزاء الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني ولقرارات الشرعية الدولية، بل إن المملكة لم تتوانَ عن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا على إثر العدوان الثلاثي على مصر وقطاع غزة. والواقع أن الملك عبدالعزيز لم يلفت انتباه بريطانيا إلا بعد طرده الأتراك من الأحساء عام 1913م ووصوله إلى مياه الخليج العربي، فأرسلت إليه وكيلها السياسي في البحرين أواخر ذلك العام للتباحث معه في مصالح الجانبين وخطر امتداد النفوذ الألماني من العراق إلى الخليج، والرغبة في وضع خطة للتعاون بينهما على أساس متين. وتلا ذلك لقاءين آخرين في بدايات العام 1914م أحدهما مع الكولونيل هاملتون الوكيل السياسي البريطاني في الكويت، والثاني مع الكابتن شيكسبير القنصل البريطاني في الكويت الذي أرسله الوكيل السياسي البريطاني في البحرين السير بيرسي كوكس ليحرضه على حرب الدولة العثمانية، إلا أن الملك عبدالعزيز كان حريصًا على موقف الحياد.(24) وجاء رفض الملك عبدالعزيز لوعد بلفور واحتجاجه الشديد لدى ملك بريطانيا على اعتداء اليهود وقتلهم بعض المصلين في المسجد الأقصى عام 1929م، ثم رفضه الشديد لقرار تقسيم فلسطين عام 1947م، رسالة لبريطانيا فهمت منها، ومنذ ذلك الحين أن الملك عبدالعزيز غير قابل للاحتواء وأنه صاحب مشروع وطني طموح ورؤية سياسية ذات بعد إستراتيجي تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الأمة والانتصار لقضاياها، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ووصلت المواجهة في كثير من الأحيان إلى مستوى التحدي، فعلى سبيل المثال فإن غالبية المستشارين العرب - منهم المصري، والسوري، واللبناني، والفلسطيني، والعراقي - الذين عملوا في خدمة الملك عبدالعزيز كانوا مطلوبين من قبل بريطانيا وفرنسا اللتين كانتا تحتلان بلادهم. وقد أقاموا في حمى الملك عبدالعزيز الذي رفض تسليمهم رغم الضغوط والتهديدات. ومن الأمثلة على ذلك قصة لجوء رشيد عالي الكيلاني إلى المملكة نهاية الحرب العالمية الثانية، وإصرار الإنجليز الذين خرجوا من الحرب منتصرين على ألمانيا على تسليمه إليهم دون قيد أو شرط، فكانت إجابته للإنجليز: «والله، ثم والله، ثم والله، أن رشيد عالي سيظل عندي آمنًا مطمئنًا ما بقيت وما بقي أحد من آل سعود حياً، والله ثم والله ثم والله لو جاء الإنجليز بأساطيلهم وصفوا بوارجهم من لندنلجدة فلن يأخذوه ما دمت حياً». (25) وحدث نفس الشيء عندما لجأ بطل معركة القسطل الشهيد عبدالقادر الحسيني إلى حمى الملك عبدالعزيز عام 1943م. وقد يكون البعض قد نسي أن من أهم رفض الملك عبدالعزيز الانضمام إلى عصبة الأمم موافقة الحكومة البريطانية على الانتداب البريطاني على فلسطين.(26) وخلال أحداث البراق عام 1929م وقتل اليهود لبعض المصلين في المسجد الأقصى المبارك، احتج الملك عبدالعزيز لدى ملك بريطانيا جورج الخامس، وأرسل له خطابًا في 15 أكتوبر 1929م أعرب فيه عن احتجاجه والأثر السيئ الذي تركه هذا الحادث في نفسه ونفس شعبه، وشكلت الحكومة البريطانية على إثر ذلك الاحتجاج لجنة تحقيق (لجنة شو)، خلصت نتائجها إلى أن للعرب وحدهم ملكية حائط البراق، وهو ما عادت وأكدته اليونسكو في قراراتها الثلاثة الصادرة عام 2016م. كما لا ينبغي أن ننسى أن المملكة قطعت علاقاتها ببريطانيا وفرنسا على إثر الاعتداء الثلاثي على مصر وقطاع غزة عام 1956م. الملك عبدالعزيز وعلاقته بفيلبي الشيء الوحيد الذي يسجل على فيلبي عرضه على الملك عبدالعزيز الموافقة عام 1940م على إعطاء فلسطين لليهود مقابل 20 مليون جنيه إسترليني، وذلك استنادًا إلى ما سبق وأن عرضه فيلبي على د. حاييم وايزمان بهذا الشأن، وحصوله على موافقة منه لتقديم هذا العرض للملك عبدالعزيز. ومعروف كيف كان رد الملك عبدالعزيز وما لقيه من الطرد والزجر والتعنيف كما يذكر أحمد عبدالغفور عطار. ويبدو لأن فيلبي اعتقد أن الحاجة - في ذلك الوقت - سوف يلجئ الملك عبدالعزيز لقبول هذا العرض، ولكنه فوجئ بثورة الملك العارمة بمجرد مفاتحته فيه. والثابت أن الملك عبدالعزيز، ورغم علاقة الصداقة التي كانت تربطه بفيلبي، إلا أنه كان يبدي نوعًا من الحذر تجاهه. وذكر الزركلي أنه لاحظ أكثر من مرة أن الملك يكون مسترسلاً في الكلام ويلمح من بعد غترة فيلبي داخلاً، فلا يلبث أن يحول موضوع الحديث بلباقة من دون تردد أو صمت، إلى موضوع آخر مما يجوز أن يستمع إليه فيلبي. ويذكر أن الرئيس الأميركي روزفلت كان قد أوفد في شهر يوليو 1943م مبعوثًا شخصيًا له يدعى الكولونيل هاري هوبكنز لمقابلة جلالة الملك عبدالعزيز ومباحثته باسم الرئيس الأميركي في القضية الفلسطينية ومعرفة آرائه حولها بالتفصيل، واستمزاجه حول إمكان استقبال جلالته لحاييم وايزمان أحد قادة الحركة الصهيونية، ورد جلالته بالقول: «أحب أن يعلم فخامة الرئيس بأننا نقابل كل من يأتي إلينا من جميع الأديان، بكل ترحيب مع القيام بالواجب لهم، حسب ما تقتضيه مهامهم من الإكرام، أما اليهود بصفة خاصة فلا يخفى على الرئيس ما بيننا وبينهم من عداوة سابقة ولاحقة، وهي معلومة ومذكورة في في كتبنا التي بين يدينا ومتأصلة من أول الزمان. أما الشخص الذي هو حاييم وايزمان، فهذا الشخص بيني وبينه عداوة خاصة، وذلك لما قام به نحو شخصي من جرأة مجرمة بتوجيه إلي دون جميع العرب والمسلمين تكليفًا دنيئًا خائنًا لديني وبلادي، الأمر الذي يزيد البغض له ولمن ينتسب إليه...». (27) وأورد الزركلي نص برقية وردت من الرياض في 23 يوليو 1937م برقم 75/23/1140 هذا نصها: «نخشى أن يحسب بعض الناس أن كلام فيلبي وخطبه ومقالاته تعبر عن رأينا في قضية فلسطين. وحيث إننا لم نكلفه بيان أي رأي أو اقتراح باسمنا، فإننا نرغب في أن توعزوا إلى بعض الصحف لتنشر أن فيلبي صديق شخصي، وعلاقته بنا علاقة شخصية، ولمعاملات تجارية وما شاكلها، أما أراؤه السياسية فهي له، ولا تعبر عن فكرنا مطلقًا». معادلة ما زالت تحتاج إلى التوازن أما فيما يتعلق بالعلاقات السعودية - الأميركية ، يذكر د. صائب عريقات بأن تلك العلاقات بدأت بشكل رسمي حين قررت الولاياتالمتحدة الأميركية إرسال أول دبلوماسي أميركي للإقامة في جدة عام 1942م، وكان جيمس موس هو أول دبلوماسي أميركي مقيم في المملكة. وفي عام 1943م، وإدراكاً منه لتعاظم دور أميركا في العلاقات الدولية أرسل الملك عبدالعزيز ابنيه الأمير فيصل وخالد إلى واشنطن لمقابلة الرئيس فرانكلين روزفلت، بعد أن اعتذر عن تلبية دعوة زيارة واشنطن. من جهته أراد روزفلت أن يعزز العلاقات السعودية مع بلاده لأنه كان يريد موافقتها لعبور الطائرات العسكرية الأميركية أجواءها بين الهند ومصر وإيران واستعمال مطار الظهران، بالإضافة إلى تعزيز دور الشركات النفطية الأميركية في المملكة.(28) وظلت القضية الفلسطينية - رغم علاقات الصداقة التاريخية بين المملكة والولاياتالمتحدة - تشكل عامل توتر في العلاقات بين البلدين منذ عهد الملك عبدالعزيز، وذلك بسبب الدعم السعودي الثابت والمستمر للقضية الفلسطينية والانحياز الأميركي السافر والمتواصل لإسرائيل، لكن الرياض دأبت، وبالرغم من ذلك، على محاولة استثمار علاقة الصداقة التي تربطها بواشنطن في اتجاه دفعها إلى اتخاذ مواقف متوازنة فيما يتعلق بهذه القضية. كما ولم تحل تلك الصداقة دون احتجاج الملك عبدالعزيز على موقف الولاياتالمتحدة الأميركية من هجرة اليهود إلى فلسطين عام 1938م. وأشار باركر هارت إلى أن العلاقات الأمنية بين المملكة وأميركا التي تأثرت سلبًا بسبب الانحياز الأميركي لإسرائيل وتجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني شهدت انحسارًا واضحًا في الفترة 1953م - 1954م. وتشير الوثائق الأميركية إلى أن الأمير فيصل بن عبدالعزيز قال لتيري دوس نائب رئيس العمليات في شركة الزيت العربية - الأميركية إنه إذا لم تغير الولاياتالمتحدة سياستها الخارجية تجاه القضية الفلسطينية فإنه من المحتمل أن يجبر الملك عبدالعزيز على تغيير موقفه من المصالح الاقتصادية في بلاده، وخاصة المصالح النفطية منها، حيث توصل الملك إلى قناعة بأنه لا يوجد فرق بين الحكومة الأميركية وسياستها، فكلاهما سيان».(29) وفي كثير من الأحيان وظفت المملكة علاقات الصداقة التي تربطها بواشنطن لصالح القضية الفلسطينية، ومن الأمثلة على ذلك توسط المملكة لدى إدارة الرئيس ريغان في عام 1982م عقب العدوان الإسرائيلي على لبنان والمخيمات الفلسطينية لتأمين الخروج الآمن لقوات الثورة الفلسطينية من لبنان. كذلك فإن هذا الموقف لم تحد منه أحداث 11 سبتمبر 2001م عندما فتح صنبور الإعلام الأميركي الذي تحركه الأصابع الصهيونية على مصراعيه حقدًا على المملكة التي كان في وسعها التخفيف من حدة تلك الحملة فيما لو أنها تراجعت عن مواقفها الداعمة لقضايا أمتها العربية والإسلامية، سواء فيما يتعلق بموقفها المساند للقضية الفلسطينية أو بالنسبة لموقفها الرافض لضرب العراق. وعبر الملك فهد بن عبدالعزيز عن امتعاضه في كثير من المناسبات بسبب الانحياز الأميركي السافر لإسرائيل على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. فقد أجل زيارته إلى واشنطن مرتين في وقت قام فيه بالعديد من الزيارات إلى عواصم أوروبية عام 1984م، «ومن الواضح أن الإدارة الأميركية فهمت مغزى هذا التأجيل».(30) وعبر الملك عبدالله بن عبدالعزيز عن نفس الموقف عندما اعتذر عن تلبية الدعوة لزيارة الولاياتالمتحدة الأميركية في شهر مايو 2001م عندما كان وليًا للعهد. وكشفت مجموعة وثائق من وثائق إدارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون أن المملكة احتجت لدى واشنطن عام 1973م بسبب انحياز سياستها لإسرائيل. وجاء في تلك الوثائق أن نيكسون استقبل في مكتبه في البيت الأبيض وزير الخارجية السعودي الذي نقل إليه رسالة مفادها أن الدعم الأميركي لإسرائيل ينظر إليه على أنه عداء للعالم العربي.(31) المملكة العربية السعودية منذ عهد القائد المؤسس الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - وعلى مدى أكثر من مائة عام، وظفت سياستها الخارجية وكرست جهودها في اتجاه دعم القضية الفلسطينية ودعم صمود الشعب الفلسطيني في مواجهة الاستعمار والصهيونية ماديًا ومعنويًا وسياسيًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا، ودفعت من أرواح أبنائها الكثير في حرب 1948م من أجل الدفاع عن القدس والتراب الفلسطيني عندما امتزج الدم السعودي بالدم الفلسطيني، وهو ما أثبتته الوثائق وأكدته الشواهد وتناقلته الأجيال. وظل الشعب العربي السعودي النبيل يقدم الغالي والنفيس لتخفيف المعاناة عن أشقائه أبناء الشعب الفلسطيني، وظلت القيادة السعودية على عهد وفائها للقدس والأقصى حتى أصبحت هذه القضية همًا سعوديًا مزمنًا لا يفارقها ما دامت القدس تحت الاحتلال وما دام الأقصى أسيرًا تدنسه أقدام المحتل والمستوطنين. المراجع والمصادر: (19) أبو علية والنتشة، مصدر سابق، ص328 - 329. (20) مجلة الفيصل، عدد خاص (تاريخ أسطورة من ذهب)، العدد 383، مايو 2008م. (21) أحمد الدعجاني، خالد بن عبدالعزيز - سيرة ملك ونهضة مملكة، ص315. (22) المصدر السابق، ص316 - 317. (23) ) صحيفة البلاد، بيان (واس) في 26 سبتمبر 1997م. (24) أحمد عامر، الملك عبدالعزيز وصنع القرار في السياسة الخارجية السعودية - دراسة في التنظيم الدبلوماسي (1901م -1953م)، ص 4 (من بحوث مؤتمر الملك عبدالعزيز). (25) العثمان، مصدر سابق، ص341. (26) د. إبراهيم فؤاد عباس، مرجع سابق، ص169. (27) محي الدين القابسي، المصحف والسيف، ط (4)، ص163-164. (28) فلسطين والسياسة الخارجية السعودية - ثوابت وتوازن (1 - 3)، القضية الفلسطينية نقطة ارتكاز في سياسة المملكة إقليمياً ودوليًا، «الرياض»، 12 سبتمبر 2021م. (29) د. إبراهيم فؤاد عباس، مصدر سابق، ص 191-193. (30) المصدر السابق، ص126. (31) نفسه، ص102. (32) وثائق أميركية، الملك عبدالله جسّد الدعم السعودي لفلسطين بالقول والفعل، العين الإخبارية، 21 مايو 2018م.