في وداع الجار والصديق الأديب فهد إبراهيم الحماد الصائغ -رحمه الله-، كتبتُ إليه هذه الرسالة الأخيرة بعد أن انقطع فيض رسائلنا: «كم هو موجع ألم الفراق يا صديقي، وكم هي محزنة بعض حالات الفقد والغياب، لم أكن أتصور أن تكون هذه الرسالة آخر عهدنا ورسائلنا، لن تردّ عليها كما عوّدتني بردودك الجميلة، وألفاظك العذبة، رسالة حزن في تأبينك يا أخي، تشابهنا في الاسمين، والأبوين، والصمتين، وأشياء كثيرة، اليوم ترحل عني فجأةً دون أن نودّع بعضنا. قبل رحيلك كنا نعلن الفرح وننشره، ونتساجل الخواطر التي تبعث على السرور، والصبر، والرضا بأقدار الله، انقطعت رسائلنا بسؤالٍ لم أجبك عنه، ولم أكن أعلم أنني سأجيبك هنا مودّعاً، ها نحن اليوم نحزن عليك يا صديقي الصموت، أكتبُ إليك الآن آخر رسالةٍ وقد اختطفتك المنون، واخترمتك أيها الحنون، يا لعزائي فيك يا جاري، كم أودعتني سرّك، وأودعتك أسراري، وكم منحتني شِعْرك، ومنحتك أشعاري؟! أحقّاً رحلتَ يا أبا صالح؟! أأقولها فيكَ الآن: (جاورتُ أعدائي وجاور ربّه / شتّان بين جواره وجواري)؟! انتهتْ أيامُ التّشريقِ بغروبِ شمسِك، آه لو علمتَ يا صديقي كيف خلّف رحيلك الموجع من آلام، وأسقام؟! أين أذهبُ بحزمة رسائلك الجميلة، وذكرياتك الرائعة، وعباراتك المونقة؟! أنتَ الذي أَلِفْتَ الفراقَ بعد رحيلِ أبويك الطاهرَين، وبعد أن قَضَت زوجتك، وتصرّم الأحبة من حولك، فتسليّت بالألم، وتأسيت بالأمل، وواسيت ابنتك بمصابها، وكافحتَ من أجل سلوتها، وساندتَ أبناءَك، ولملمتَ أشلاءَك، وصَبرتَ صبراً جميلاً، وتحاملتَ على نفسك طويلاً، وزدتها حملاً ثقيلاً، حتى أعياكَ الهمّ، وأضناك السهر والغمّ، اليوم ماذا أقول لابنتك، وإخوتك، وأحبتك؟! ماذا سأقول لهم سوى الصبر، وبلوغ الأجر إن شاء الله. ها أنا ذا أكتبُ إليك رسالتنا الأخيرة، وروايتك (صدى الصمت) بجواري، أتعلم أن هذا الصدى صار صاخباً؟! وأنَّ دويّه أصبح مجلجلاً في الآفاق، والأعماق؟! كتابُك عن أبيك الطيّب -رحمه الله- وكتابك عن المكان الذي عشقته، ها هي كتبك تعزّيني وتسلّيني، سأجدُك فيها بِسَمْتِكَ، وصَمْتِك، سأجد فيها ابتساماتك الوادعة، ورسائلك البهيّة، وعواطفك النديّة، لأعيد فيها ذكراك الجميلة، وأيامك البريئة، ولياليك الهادئة، أيها الصديق الجميل، والرفيق النبيل، والصاحب النقي، والخل الوفي. وداعاً يا صديقي، فلن أنسى توجيهك، ودعمك، وتشجيعك، كنتَ ملهماً بحق، وكنتُ أستمدُّ منك -بعد فضل الله- كثيراً من الفوائد، والفوائت، فما أجمل ما قدمته لي، وما أجمل وقتاً قضيناه في مكتبتك، وفي النادي، وفي الحارة، وفي المسجد، وفي القلوب، والذكريات العامرة، ما أجمل تسابيحك في السحر ونحن في رمضان، نشأتُ منذ صغري على رباطك ودأبك للصلاة، كنتَ تحافظ عليها، وتحب الخير، وهذه سلوتي فيك يا صديقي. وَعَدتُك قبل رحيلك أن أهديك آخر كتبي موقّعاً، لكنكَ مَضيتَ فكان وداعك هو التوقيع، سأهديك كتابي، وسأعطيه أولادك من بعدك، ليبقى في مكتبتك شاهداً على ذكرى محبتنا، ورحلتنا الماتعة، ولن أمحو رقمك من هاتفي، بل سأظل أتأملك من خلاله، حتى وإن بعُدتَ بجسدك، فما زالت روحك الطاهرة ترفرف في سمائي، وما زال ذكرك الجميل عزائي، وليس لكَ الآن مني غير خالص دعائي».