(نموذج "الرابطة القلمية": ظروف التَّكوُّن وخصوصيات المُنْجَز). تركت مجموعة من الحركات الأدبية مواطنها الأصلية ونزحت نحو مناطق أخرى، فارة بمعتقداتها وبفكرها وبأدبها - على الخصوص - من الاضطهاد أو العادات الجائرة. ولعل من بين أهم هذه الحركات وأبرزها في التاريخ المعاصر للأدب العربي: "الرابطة القلمية". هاجر مجموعة من الشباب العرب، لاسيما من منطقة الشام، نحو أميركا الشمالية حيث أسسوا "الرابطة القلمية". ولا شك أن السؤال الذي يفرض نفسه بحدة هنا هو: ما الدافع وراء عدم تأسيس هذه الرابطة في الوطن العربي وبقائهم، بالتالي، بين ذويهم وأهلهم؟ يشير "نادر جميل سراج" إلى أن العوامل التي كانت سببا في هذه الغربة جد متعددة، لعل من أهمها في تلك الفترة (بداية القرن العشرين) أن أغلب الدول كانت خاضعة لحكم "الأستانة" (الإمبراطورية العثمانية)، التي كانت سلطتها تضايق هؤلاء الأدباء وتمنعهم من طرق بعض الموضوعات، وتقف حاجزا بينهم وبين نشر إبداعاتهم، هذا فضلا عن اجتهادهم في سبيل الابتعاد عن سعير الحرب العالمية الأولى الذي كان محتدما آنذاك. لقد نشأ هذا الأدب بوصفه محاولة من أعضاء "الرابطة القلمية" للتعبير عن مكنوناتهم ودواخلهم الذاتية بكل حرية وانطلاق، ودون قيد أو شرط؛ فاطلعوا فعلا على الأدب الأميركي وحركاته، وكذا أسس الثقافة الأميركية، كما أتقنوا اللغة الإنجليزية، ومنهم من عبَّر بها في أكثر من مناسبة -كنموذج "جبران خليل جبران"-، من دون أن يمنعهم ذلك من التعامل مع الأدب العربي بالطريقة نفسها، وقد مكنهم هذا في نهاية المطاف من تحصيل كَمٍّ من المعارف والخبرات الأدبية أسهمت في تأسيسهم لرابطتهم التي تجاذبتها ثقافتان: العربية والأميركية. ويعتبر "جبران خليل جبران" الداعية الرئيس لتأسيس هذه الرابطة؛ حيث تأثر بالشعر الأميركي وكان من محرري مجلة "The Seven Arts" (الفنون السبعة)، الشيء الذي مكنه من الاتصال ب"جمعية الشعر النيويوركية" التي تركت آثارا عميقة في شخصيته وإبداعه. وهكذا، يكمن السبب المباشر لنشأة "الرابطة القلمية" في الرغبة في التجديد على مستوى اللغة الشعرية، والتخلي عن الاقتداء بالقدماء، لذلك عُرفت الرابطة بتجديداتها، خاصة على المستويات اللغوية والتعبيرية والمضمونية. إن الوظيفة الأساس للغة هي التواصل، لذلك وجب أن تتحقق هذه الوظيفة في كل إبداع لغوي. وقد وعى أدباء "الرابطة القلمية" هذه الحقيقة، فجاءت مجمل إبداعاتهم ملائمة لكل الأذواق وعابرة لكل الحضارات. إن لغة الأدب المهجري الشمالي لغة متينة سلسة، تزاوج بين الجزالة واللين، لغة يصدق عليها قول: "السهل الممتنع". لغة تخرق في أحايين كثيرة القواعد المتواضع عليها من دون أن يقدح ذلك في سحرها وجماليتها، يقول "جبران خليل جبران" في إطار مقارنته بين "الرابطة القلمية" من جهة، وكل من الشعر العربي القديم و"العصبة الأندلسية" من جهة ثانية: "لي لغتي ولكم لغتكم". لقد حاولت الرابطة أن تبتكر في جميل الأساليب والصيغ، وعابت على "الرابطة الأدبية" في سوريا بقيادة "خليل مردم بك" اعتناءها بالقشور اللفظية، وربما إلى هذا السبب يرجع رفض "جبران خليل جبران" التعاون مع هذه الرابطة، وتفضيله "العقاد" الذي كان يشن (في كتابه "الديوان") حربا شعواء على "أحمد شوقي"، وينعي عليه تشبثه بالقديم. وعلى المستوى الموضوعاتي، اهتم أدباء "الرابطة القلمية" بموضوعين أساسيين: الطبيعة والروح. فالأدب الحقيقي في منظورهم هو المتصل بالحياة؛ لهذا السبب كانوا يريدون الخروج من شرنقة الجمود والتقليد إلى أفق الابتكار والتجديد في جميل المعاني والأساليب، رافضين تقليد القدماء لأنه ليس إلا موتا لأدبهم، لقد كانوا مؤمنين بأن الأدب يعبر عن الحياة التي نحياها، لا تلك التي عاشها أجدادنا. ويرى "ميخائيل نعيمة" أن الإنسان "حيوان مستحدث"، يدخل في صراع دائم مع الطبيعة التي تصرعه وتقاومه ولا تستجيب له، والمهم في هذا الإنسان هو دواخله النفسية غير الفانية التي ترفعه فوق الحيوانية، وتأسيسا على هذا فأدب الروح خالد، أما أدب المادة ففانٍ كجوهره. إن الروح منبع خصب لا ينفذ، ومعين يُغترف منه دون أن ينقص مقدار قطرة واحدة. يقول "ميخائيل نعيمة": "فإننا في كل ما نقول ونفعل، وكل ما نكتب إنما نفتش عن أنفسنا"، ويقول "جبران خليل جبران": "أنا كولومبوس نفسي، في كل يوم أكتشف قارة جديدة فيها". إنهم متأثرون بالرومانسية الأوروبية وبالحركة الروحية الأميركية المتأثرة بمذهب التعالي (Transcendantalisme)، الذي يعني - باقتضاب شديد - السمو بالروح إلى آفاق علوية، والدعوة إلى الحرية والاهتمام بالذات ونبذ الماضي، وقد تشبع بعض شعراء الرابطة بمبادئ الصوفية - التي تتصادى بشكل أو بآخر مع المذهب المذكور أعلاه - ك"نسيب عريضة" مثلا، دون إغفال الروح الشرقية التي طغت على أغلب إبداعاتهم، وذلك من قبيل الحنين إلى الوطن، وذكريات الطفولة. وعلى العموم، فقد نزعت الرابطة في شعرها نحو التجديد، سواء على مستوى المعنى أو المبنى، حاملة شعار رفض التقليد ومحاربة الجمود، ومما لا شك فيه أن هذا التغيير سيسهم في التأثير على مسار الأدب العربي المعاصر. لقد ساهم في تقبل المشرقيين لأدب "الرابطة القلمية" الانفتاح على التجديد، وبداية الاستئناس بالملامح التحديثية والمؤثرات الأجنبية في الوطن العربي، لذلك اهتم به الأدباء والمتأدبون، مثلما اهتمت به الصحف والمجلات ودور النشر التي عنيت بنشر بعض محتويات "كتاب الرابطة القلمية"، علاوة على إبداعاتهم اللاحقة، ويبدو أن الأدباء الشباب العرب كانوا أكثر شغفا بهذا الأدب من غيرهم، خاصة "مي زيادة"، و"أبو القاسم الشابي"... وبالتالي أثَّر أدب "الرابطة القلمية" بشكل إيجابي في الأدب العربي، حتى إنه أصبح مثالا يحتذى؛ مثلما نجد في بعض أشعار "أبي القاسم الشابي"، وهذا ما دفع الناقد المصري "محمد مندور" إلى نعت نثرهم - هذه المرة - ب"المهموس" الذي تقبله الأذن وترغب فيه، لقد كان هذا النثر - حسب "محمد مندور" دائما - يخاطب الروح ويريح النفس، ومن هنا قيمته الجمالية، وجاذبيته الطاغية. ولا يعني ما أسلفناه أن أدبهم لقي قبولا لدى عموم النقاد والأدباء العرب؛ فهذا "المازني" وذاك "طه حسين" وغيرهما يعيبان على أدباء "الرابطة القلمية" تقصيرهم في الأوزان، وإهمالهم للبحور والقوافي، وعدم احترام القواعد النحوية والصرفية، ويبدو بجلاء أن أدباء "الرابطة القلمية" قد أجابوا عن مثل هذه الاعتراضات قبل أن تظهر، وذلك عندما أشاروا إلى نبذهم للتقليد وطموحهم إلى الابتكار والتجديد، كما شكلت "العصبة الأندلسية" (مدرسة الشعر المهجري بأميركا الجنوبية) قطبا آخر للمعارضة؛ إذ كانت أقل تحررا وأكثر ارتباطا بالقدماء شكلا ومضمونا، لذا نظموا أشعارا هجوا فيها أدباء "الرابطة القلمية"؛ وقد رد عليهم "جبران خليل جبران" بالمثل. وبغض النظر عما قدمنا، يبقى أدب "الرابطة القلمية" طفرة نوعية في الأدب العربي المعاصر، حيث حمل مشعل التجديد بشجاعة، وكان سباقا إلى الثورة على الجمود والتقليد، من دون الانفصال كليا عن القديم. لقد مثَّل هذا الأدب شكلا قويا من أشكال هجرة اللغة إلى المكان (من البلاد العربية إلى الديار الأميركية)، ومحطة بارزة في الأدب العربي لا تزال آثارها صُوى إلى الآن. لقد هاجرت هذه اللغة (اللغة العربية) مسلحة بذخيرة لا تنضب من ثقافة قوامها أكثر من خمسة عشر قرنا من الزمان، واستفادت أيضا من حاضرها؛ فأنتجت أدبا مميزا أيَّما تميُّز. معطيات توثيقية: تمت الاستعانة في صياغة هذا المقال بالمراجع التالية: نادر جميل سراج، شعرية الرابطة القلمية، دراسات في شعر المهجر، دار المعارف، القاهرة، 1964، صص: 87 - 106؛ جبران خليل جبران، الأرواح المتمردة، المكتبة الأدبية، بيروت، لبنان، (تم الاعتماد على تقديم "أمين الغريب" - صاحب جريدة المهجر - لهذا الكتاب، صص: 5 - 14)؛ ميخائيل نعيمة، الغربال، دار نوفل، الطبعة 15، 1991. * أستاذ مُبَرَّز في اللغة العربية - المغرب عباس محمود العقاد محمد مندور من اليمين: ميخائيل نعيمة، عبد المسيح حداد، جبران خليل جبران، نسيب عريضة نبيل موميد