قراءة وتعليق: حنان بنت عبدالعزيز بن عثمان بن سيف *اسم الكتاب: جبران خليل جبران، حياته، موته، أدبه، فنه. *اسم المؤلف: ميخائيل نعيمة. *طبعة الكتاب: الطبعة الثامنة 1978 مؤسسة نوفل بيروتلبنان. جبران خليل جبران هو شاعر العزلة، وشاعر الوحشة، وشاعر اليقظة الروحية، وشاعر البحر، وشاعر العواصف، هو رجل يحب العزم والقوة والفتوة، كمحبته للظرف والجمال والبهاء، فهو شبح هائل ضخم يعيش في وادي ظل الحياة، المرصوف بعظام الناس وجماجمهم، كان جبران خليل جبران كما يصفه مؤلف الكتاب كالواقف على منبر، وكانت الصحافة العربية كالبوق تؤدي صوته إلى كل قطر ومهجر عربي، وكان يتمنى ان تكون ولادته ملتحفة بلحاف السر والغرابة والإعجاز، وفي حياة كل إنسان منا اسرار فهل يحق له قولها أو كشفها للناس؟ وهل يحق لمن عرف شيئا من هذه الأسرار أن يخبر بها الناس؟ كان هذا التساؤل مما ذكره الأديب الكبير ميخائيل نعيمة في اعتذاره الذي صدّر به كتابه جبران خليل جبران، ولكن المؤلف ما لبث أن أصغى لإلحاح كثير من الناس الذين اعتبروا هذا الكتاب ديناً في عنقه، وواجباً يمليه عليه الأدب، وكان الهدف من تأليف الكتاب على حد قول مؤلفه: (على أمل أن يطالع القارئ من خلال فصوله صورة جبران كما عرفته لا تاريخ حياته الذي لا يعرفه أحد)، وقد جرت العادة أن يبدأ المؤلف حديثه عن الشخصية التي يترجم لها بالمولد والنشأة، وما يتبعهما، أما الأديب الكبير ميخائيل نعيمة، فقد عكس الصورة، حيث صور وفاة الشاعر الكبير جبران خليل جبران، بصورة شاعرية دقيقة، متدفقة بالإعجاب والاحترام والتقدير، حيث وصف فيها الغرفة التي ضمت هذا الكيان العظيم، والعملاق الكبير وهو ملقى ومسجى على ظهر السرير، وكيف ان هذا الأديب العظيم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بأدبياته وشعرياته ورسوماته لا يتقن إلا كلمة واحدة وهي (غرغر) وادلهمت الأفكار في رأس مؤلف الكتاب حين وجد شقيق روحه، ورفيق دربه لا يتقن سوى هذين الحرفين. ثم أتبع المؤلف تصوير ساعة احتضار جبران خليل جبران، بالحديث عن مولده ونشأته وأسرته، فقد كانت (كاملة) أرملة (حنا عبدالسلام رحمه)، وكان رجلاً طيب القلب، نقي السريرة، أخذها إلى البرازيل، ومات هناك بعد أن وضعت له ابناً ذكراً، سُمي (بطرس)، ثم تزوجت (كاملة) ابنة الخوري اسطفان من رجل آخر يدعى (خليل جبران)، ولا يطلع الفجر في بشرى حتى يسري الخبر من بيت إلى بيت بأن (كاملة) قد وضعت ذكراً سماه والده جبران، وكان ميلاد هذا الطفل في ليلة السادس من كانون الأول سنة (1883) في قصبة بشراي من أعمال لبنان، في تلك الفترة شب جبران خليل جبران بين أمه وأبيه وأخيه لأمه بطرس، وبين شقيقتيه (مريانا) و(سلطانه)، وفي يوم من الأيام عاد بطرس إلى أمه فوجدها حزينة باكية، دموعها تترقرق على وجنتيها، وقد أخبرته بقرارها الأخير في رغبتها الشديدة بمرافقته للسفر إلى أمريكا مع أخيه جبران وأختيه مريانا وسلطانه، وستكون الوجهة إلى مدينة (بوسطن) حيث آثارها التاريخية ومعاهدها العلمية والفنية، وفي حي الصينيين بحقارته وقذارته سكنت كاملة مع أبنائها الأربعة، وهنا بدأت مواهب جبران تتفتق فها هو يجيد الرسم جداً، ثم تفتحت أزاهير أدبياته وشعرياته، فهو يجيد الإنجليزية قراءة وكتابة في مدة زمنية لم تتجاوز السنتين، وهو يقرأ رواية طويلة، وهي (كوخ العام طام)، فتعوذه أمه خشية عليه من الحسد والعين، ولكن الأيام لم تدع جبران وشأنه، فقد أخذ السل ينهش رئتي أخته سلطانه، فتوفيت، ولم يكتف بهذا بل تعداها إلى أمه وأخته، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولم يبق له من أسرته إلى أخته (مريانا) والتي جعلت من إبرتها صديقة لها، تتقوت منها ما يسد رمقها ورمق أخيها، وما تستعين به على شظف العيش كدفع أقساط الغاز والإيجار، وبين النجاح والفشل مضى على معرض جبران بضعة أيام ولم تذكره الصحف إلا تنويها، وازدحم معرضه بالزائرين ولكنه لم يبع منه ولا لوحة واحدة، وجبران يكثر في رسوماته من ذكر الموت والألم وسبب هذا كما جاء على لسانه: (لأن الموت كان نصيبي الأكبر من الحياة حتى اليوم، فبين الرابع من نيسان سنة 1902 والثامن والعشرين من حزيران سنة 1903 فقدت أختي الصغرى، ثم أخي الأكبر ثم أمي). والجمال عند جبران هو ما تحسبه الأجسام محنة والأرواح منحة، هو ألفة بين الحزن والفرح، وهو قوة تبتدئ في قدس أقداسنا، وتنتهي فيما وراء تخيلاتنا، وفلسفة جبران في فنه هي: (الفن أن نؤدي روح الشجرة، لا أن نصور جذعاً وفروعاً وأغصاناً وأوراقاً تشبه الشجرة، الفن أن نأتي بضمير البحر لا أن نرسم أمواجاً مزبدة أو مياهاً زرقاء هادئة). ولعمري لقد وصلت هذه الروح الفنية عند جبران خليل جبران إلى قلب صوره، وجوهر ألواحه، بل تعدتها إلى مسميات صوره وفنياته، فإليك لوحة سماها (رقصة الأفكار)، وأخرى سماها (فوّارة الألم)، فهل نقول: بأن الأفكار كانت تزدحم في رأس هذا الشاعر الموهوب، ثم ما تلبث أن تتحول إلى حركة رقصية منظمة ناضحة بالزهو والفرح والنشوة، وأحياناً ألا تتخذ هذه الأفكار المزدحمة شكلاً آخر يفور بألم وحزن شديدين على مصير هذا الشاعر المجهول الذي اختطف الموت من بين يديه أخاه وأخته وأمه، وهل الموت يرسم على بقايا أسرته المتمثلة في شخصه وشخص أخته (مريانا)؟ ثم ما هو الفرق بين الفنان والشاعر، وهل هما واحد أم لا؟ (التصوير كالنظم إذا تملكك الموضوع، واهتديت إلى القالب المناسب نظمت القصيدة بسرعة وبغير عناء، فكأنها نظمت ذاتها، كذلك إذا آنست ممن تصوره، أو فيما تصوره قوة تستفزك إلى التصوير، فالصورة تصور ذاتها فتصبح الريشة في يدك بعضاً من يدك، وتصبح (أنا) (ملك) كأن في رأس كل منها عيناً، وكأن كل هذه العيون تبصر بحدقة واحدة). وفي المفاضلة بين جبران الشاعر، وجبران الفنان، قال الأديب العملاق ميخائيل نعيمة: (كنت أنظر إلى رسومه فأشعر كأنها رسمت ذاتها من غير ما جهد أو عناء، فكأن عين جبران الفنان كانت أطوع لخياله، ويده أطوع لعينه من قلم جبران الشاعر لشعوره، وفوق ذلك فجبران الشاعر كان شديد الولع بمزج ألوان الكلام ورناته، فكان يكثر من الادهان والأنغام إلى حد الزركشة والتنميق، حين أن جبران الفنان كان يطلب البساطة المتناهية، فتأتيه بسهولة متناهية، هي بساطة كلاسيكية تعرف أصول الفن، وتنسى أنها تعرف، وهي بساطة تخلق لك من خطوط قليلة أشكالاً كثيرة، وخطوطها ليست حدوداً لحياتك، بل هي عيون وأجنحة تمضي به إلى أبعد من الخطوط والحدود). وفي خريف سنة 1912م انزج جبران خليل جبران بين تلك الملايين من الناس، وفي قرية غرنيتش والتي هي عبارة عن حي قديم من أحياء نيويورك كان يقطن جبران، حيث كانت هذه القرية تضم الشاعر والشحرور والفيلسوف والمتلفلسف والرسام والفنان، وكانت هذه الفئام من الناس ترى انها من طينة تختلف عن طينة الناس، وفي أرواحها تركيبة مختلفة عن تراكيبهم، لذا فهم يبتدعون لأنفسهم زياً يختلف عن أزياء الناس قليلاً وهم يحبون الجمال وما سواهم يحب المادة ويهيم فيها، ومن جميل ما ورد في الكتاب، مقالة بديعة عن الفلس، حين جلس على عرشه، ونادى اعوانه خاطباً فيهم بكلمات جميلات، ظهر فيها جانب الخيال الخصب، والقدرة على إدارة الحوار، مع دقة الوصف الشديد، وقوة الحجة التي ظهرت في هذه الخطبة الخيالية البديعة، وقد عنون لها بالعنوان التالي: تمخضت الفأرة فولدت جبلاً) حيث بدأ الفلس خطبته بقوله: (منذ سلمني الناس مقاليدهم وأنا أدأب النهار والليل في سبيل إسعادهم، وأجترح العجيبة بعد العجيبة لأنقذهم من بؤسهم وشقائهم). ومن أفراد تربطهم ألفة أدبية وفنية وروحية تألفت الرابطة القلمية، وعدد أفراد هذه العصبة عشرة وهم على التوالي: جبران خليل جبران عميد، ميخائيل نعيمه مستشار،وليم كاتسفليس خازن، ندره حداد، إيليا أبو ماضي، وديع باحوط، رشيد أيوب، إلياس عطا الله، عبدالمسيح حداد، نسيب عريضة، وشعار هذه الرابطة القلمية: (ليس كل ما سطر بمداد على قرطاس أدباً، ولا كل من حرر مقالاً أو نظم قصيدة موزونة بالأديب)، والأدب عند هذه العصبة هو: (الذي يستمد غذاءه من تربة الحياة ونورها وهوائها). وقد كتب جبران كتبا كثيرة بالعربية، لا سيما روايته (الأجنحة المتكسرة)، والتي همّ أن يعدل عن طباعتها، لولا أن هذا الأديب العملاق قد أودع فيها أقصى ما توصل إليه خياله من قوة التصوير بالكلام والتنغيم بالمقاطع، وقد استقبلها العالم العربي استقبال الحدث الخطير، ورأى فيها الشكوى الدامعة، والألحان الرقراقة، لكن حلم جبران الأكبر أن يجمع بين الكتابة الأدبية بالعربية، وبين الكتابة الأدبية بالإنجليزية، وقد بلغ هذا المدى في الإنجليزية حين كتب كتابه (البني) وقد أكثر فيه من التشابيه المبتكرة، والاستعارات والمجازات البديعة والتي جاءت كتماثيل محفورة في صخر، والتي اطلق فيها المجال لإبداعه وخياله الفياض، وعلى إثر صدور (البني) أصدر جبران كتابا آخر بعنوان (يسوع ابن الإنسان)، وقد كتب له ميخائيل نعيمه مقدمة بديعة تحدث فيها عن صورة يسوع بريشة جبران الفنان، ثم صورة يسوع بقلم جبران الشاعر والأديب، لكن جبران من بعد (البني) و(يسوع ابن الإنسان) أدبرت دنياه، من حيث يظنها مقبلة بجحافلها وبيارقها، فقد كثر معجبوه، واتسعت موارد رزقه، لكن المرض ظل يماطل جبران سنين عديدة، وظل جبران يماطل المرض أحياناً أخرى، وسرعان ما كشفت عن موضع الداء في أحشائه، ويصف جبران قلبه بقوله: (مذ جئت هذه المدينة وأنا أتنقل من طبيب اختصاصي إلى طبيب اختصاصي،ومن فحص دقيق إلى فحص أدق، كل ذلك لأن هذا القلب قد فقد وزنه وقافيته، وأنت تعلم يا ميخائيل أن وزن هذا (القلب) لم يكن قط مطابقا للأوزان وقافيته لم تكن أبداً مماثلة للقوافي). ثم استسلم جبران للمرض، ولسان حاله يقول: فلتفعل الأقدار ما تشاء، وظلت الأقدار تلملم خيوط حياته الأرضية، وأصحابه يعتقدون أنها ماشية في نسجها، وكان آخر ما كتبه جبران ودفعه مخطوطاً إلى شقيق روحه، وأنيس وحدته (ميخائيل نعيمة) كتاب (آلهة الأرض)، وبعدها أسلم جبران روحه إلى باريها بعد حياة مليئة بالكد والكفاح والعمل، وهذا ما عبر عنه مؤلف الكتاب بقوله: (تموت الأجيال وتمسى رماداً، أما نار الفن والأدب عند جبران فتبقى خالدة). هذا وقد قسم المؤلف كتابه إلى أربعة أقسام جاءت مسمياتها على التوالي: الشفق، الغسق، الفجر، ثم الملحق، وكان كل قسم يضم عناوين فرعية متعددة أيضاً، وكانت هذه العناوين الفرعية جميلة جداً، كهدية الموت، فصل يبتدئ وفصل ينتهي، حفار القبور، وقد يجمع الله الشتيتين وغيرها. وفي ملحق الكتاب تحدث المؤلف عن جثمان جبران وعن وصيته، ثم رسائل جبران إليه، ومن جميل مداعبات مؤلف الكتاب (ميخائيل نعيمة) لرفيق دربه الأديب الكبير، والشاعر الفحل، والفنان المبدع، جبران خليل جبران رسالة بدأها بقوله: (سلام على قلبك الدقاق، وأنفك البراق، وعلى ما ابيض من شَعرك، وما أسود من شِعرك). وقد كان المؤلف ينتقي صوراً من حياة جبران ويتحدث عنها، وكان يرقمها بالتسلسل العددي، كما أنه كان يأتي بأمثلة من مقالات جبران، كمقاله الذي أسماه: (المليك السجين)، وكان يقصد به الاسد السجين، في حديقة الحيوان. وقد ذكر المؤلف رواية (ملك البلاد وراعي الغنم) وهي آخر ما كتبه جبران بالعربية، ثم ترجمة لقصيدة (الميثاق السري) التي ألقاها المؤلف بالإنجليزية في حفلة تذكارية أقيمت لجبران عام 1931م. وأخيراً الكلمة التي افتتحت بها حفلة الأربعين لجبران، والتي أقامتها الجالية السورية في بروكلين، ومن جميل الكلمة: (إنه لغرض لا أعرفه، ولا تعرفونه، ولد جبران في لبنان وفي العصر الذي ولد فيه، ولحكمة أجهلها وتجهلونها كانت العربية لغته، فكأني بالعين التي تبصر كل حاجة، أبصرت ما في حياتنا الروحية من القحط، فأرسلت لنا هذه السحابة المباركة لتمطرنا بعض بركاتها)، ثم ختم الكتاب بفهرس تفصيلي للموضوعات، ثم فهرس للصور التي رسمها الأديب جبران خليل جبران بريشته. وقد استطاع الأديب العملاق ميخائيل نعيمة في هذا الكتاب الحافل أن يشرح هذه الشخصية الفذة الضخمة، بكل دقة ومهارة وإبداع مظهراً سر عظمتها، وبؤبؤ إعجازها، وقد كان جبران يعرف حق المعرفة أن ميخائيل لديه هذه القدرة الفائقة فكان يقول له: (لك عين تنفذ إلى أعماق نفسي، وقلم لو شاء لمزق الستائر التي أتستر بها عن أعين الجهلاء والعميان). وفعلاً فقد صدقت فراسة الأديب العظيم جبران خليل جبران، حيث كان المؤلف بارعاً جداً في تصوير خلجات النفس، ودقائق الشعور.