لا يمكن لرواية أن تكون مجرّد قصة. إنها حياة كاملة لأشخاص وأمكنة، يجمع أطرافها كاتب له أسراره التي قادته إلى الاشتغال باللغة والمادة الإنسانية التي لا تنضب أبداً. حين بدأت بقراءة رواية «الملف 42» للمغربي عبدالمجيد سباطة، وجدت ما أسرني منذ البداية، فأدركت أني أمام كاتب دقيق يحترم قارئه، وهذا ما جعلني أتوقف قليلاً لتشغيل محرّك غوغل لمعرفة هذا الكاتب الذي فاتتني قراءته لولا بروز اسمه في القائمة القصيرة للبوكر العربية. قادتني عملية البحث إلى اكتشاف بعض من جوانب حياته، مثل دراسته العلمية، وتخصصه في الهندسة، وإلى نتاجه المتواضع، رواية أولى «خلف جدار العشق» أشاد بها قراء «غود ريدز» مثلاً، «ساعة الصفر» نال بها جائزة المغرب للكتاب العام 2018، وأيضاً عرفت من خلال ما كتبه قراؤها أنها رواية تقوم على دعامة التشويق، وهي نفسها الدعامة التي بنى عليها روايته الأخيرة. المنتمون لمعاهد الأدب وقعوا في فخ الكتابة المنهجية سباطة أيضاً مترجم، وهذا يعني أنه منفتح على ثقافة مغايرة لثقافته، وأنه من حسن حظه عاش في مدينة «طنجة» الشهيرة التي كانت ولا تزال قبلة للعالم الذي يبحث عن سحر الشرق. في حوارنا المقتضب هذا سنعرف جانباً من حياة سباطة وهو بالتأكيد واحد من مكونات ومحفزّات مخيلته، ومفتاح لصندوق أسراره التي جعلته يصنف اليوم بين الكتاب الجيدين، الذين لا يخيبون أمل قارئهم. * دعنا نبدأ من تأثير الفضاء المكاني عليك، كيف بدأت علاقتك بمدينة طنجة وما الذي قدمته لك؟ * حملتني رياح الدراسة إلى مدينة طنجة سنة 2010، لمتابعة دراستي في سلك الإجازة ثم الماستر، تخصص الهندسة المدنية، كان حباً من النظرة الأولى، عشقت المدينة وأجواءها، واعتبرت أن ما مضى من عمري قبل التواجد بها مختلف عما بعده، لكن في المقابل، لم تكن رحلتي الدراسية هناك على ما يرام، ولم أكن مرتاحاً أصلاً لتخصصي العلمي، فحاصرتني جملة من المشاكل في الكلية، وتأثرت علاقتي بالمدينة، ولم أستعد حبي لها إلا بعد حصولي على الماستر سنة 2014، بعدها سرت عكس التيار، وعكس منطق الظروف في بلداننا العربية، وفضلت مسار الكتابة على درب الهندسة، فآمنت طنجة بي، وقدمت لي دعماً نفسياً هائلاً، ومع كل زيارة لها، أجدها وقد فتحت ذراعيها لتضمني، وتهمس في أذني قائلة: واصل، أنت تسير في الطريق الصحيح! * طنجة محمد شكري، وطنجة عبدالمجيد سباطة، أين التقاطعات وأين المفارقات؟ * محمد شكري ظاهرة لا تتكرر، حاول البعض تقليدها وفشلوا، لذلك أبتعد دائماً عن التعليق على تجربة شكري المتفردة. لطنجة وجهان، نهاري وليلي، ولكل وجه عشاقه ومريدوه، هناك من لا يرى في المدينة سوى ليلها، بصخبه وبوهيميته وعربدته، لكنني أميل إلى صمتها أكثر، أفضّل صباح طنجة شديد الهدوء، قهوة وذهن صافٍ وإطلالة مميزة على شاطئ البحر، مع كتاب ومذكرة صغيرة أدون فيها ملاحظاتي وأفكاري، هذا هو التعريف المبسط للسعادة بالنسبة لي. الترجمة قلصت الفجوة ومحمد شكري ظاهرة لن تتكرر * طنجة عشقها كتاب وفنانون غربيون، مدن مغربية أخرى ملكت قلوب زائريها من أهل الغرب، وأنت بطريقة غير مباشرة أنعشت هذا الجانب، وكأنّك تلمِّح لأمر ما، ما الذي يراه الغربي في مدينة مثل طنجة ولا يراه العرب؟ * طنجة مدينة الدهشة بامتياز، يأتي إليها الغربي محملاً بخزان استشراقي يتخيل معه بأنه سيجد الرمال وقوافل الجمال والأسواق التقليدية بانتظاره، لكنه يصدم بما لم يتوقعه قط، بموقعها الخاص وجوها الساحر، وسرها الغامض، حيث يلتقي الشرق والغرب، البحر والمحيط، المعاصرة والأصالة، لذلك توافد عليها السياح من كل حدب وصوب، وتصارعت عليها القوى الاستعمارية في وقت ما، قبل أن تتفق على تقاسم النفوذ فيها واعتبارها منطقة دولية. يحز في النفس أن ما كتبه الأمريكيون والإسبان والفرنسيون وغيرهم عن طنجة، في التاريخ والرواية والقصة وأدب الرحلة، يفوق أضعاف أضعاف ما كتبه المغاربة، بما يستوجب معه إعادة اكتشاف أسرار هذه المدينة من جديد، وبشكل موضوعي، يبتعد عن الشوفينية التي قد ينتهجها البعض. * تكشف في روايتك سر كتابة رواية، تقدّم ورشة مجانية لقرائك، ماذا تخفي خلف هذه التعرية الخطيرة؟ * وقف عدد كبير من القراء عند صفحات المذكرة الزرقاء التي تكشف خطة كتابة "الرواية" في الربع الأخير من "الملف 42"، واعتبروا الفكرة شديدة التهور، فلا أحد يكشف عن "أسلحته" بهذا الشكل. هذا التساؤل صحيح فعلاً، لكن الحقيقة هي ما يلي: أحب العوالم الميتا سردية، وذلك التوازي بين النظرة إلى الرواية من الداخل والنظرة المقابلة من الخارج. صفحات المذكرة الزرقاء جزء من اللعبة أو لنقل بصراحة "الخدعة" الروائية، إذ ترسخ بالفعل "كذبة" فقداني للحاسوب ومشروع "الرواية" التي عجزت عن إتمامها وتتناول فقط قصة كريستين ماكميلان ورحلة بحثها عن ماضي والدها في المغرب. الحبكة كما هو معلوم أعقد من ذلك، وتتناول خطاً سردياً آخر على لسان زهير بلقاسم، ما يعني أن الخطة أو الورشة الفعلية مختلفة تماماً، ويتجاوز عدد صفحاتها في المذكرة الزرقاء "الحقيقية" خمسين صفحة، ما قدمته صراحة لم يكن مغامرة، بل مراوغة! * كان بإمكانك أن تبقى حبيس زمن واحد وهو الأسهل لبناء رواية متماسكة في العادة، ولكنّك اخترت أزمنة عديدة، مبتكراً تقلبات زمنية لأشخاصك، حتى جعلت عقدتك الروائية مستحيلة، بالله عليك كيف دخلت هذه المغامرة الصعبة؟ وكيف خرجت منها سالماً؟ * لا تحتاج "رواية القراءة" (بحسب تصنيف رولان بارت لروايات السرد التقليدي والحديث) لجهدٍ كبيرٍ من القارئ؛ فهي تصاعديّة منطقيّة في أحداثها، أما في "رواية الكتابة" فيقوم الكاتب ببذل جهدٍ كبير لبناء هندستها وحبكتها، لتتطلب بالتالي جهدًا مميّزًا من القارئ. إذا لم أجبر نفسي على الخروج من "منطقة راحتي" الروائية فلن أتطور أكثر، ولن أدفع بخيالي نحو عوالم أوسع. بالعكس، كلما كانت المغامرة صعبة إلا ووجدتني أكثر ميلاً لخوض غمارها. أبذل كل ما في وسعي للانفتاح على تجارب سردية متنوعة وشديدة الثراء، من مختلف أنحاء العالم، وأعتبر بعضها تحدياً للقارئ والكاتب في أعماقي، فصرت مع مرور الوقت أكثر ميلاً للسرد غير الخطي، مع تعدد الشخصيات والأزمنة والأحداث، وتعدد المفاجآت والمطبات في الحبكة. لم تكن تجربة الملف 42 سهلة، وقد كتبتها وأنا واثق من أن بعض القراء لن يستسيغوا شكلها وتعقيدات حبكتها، لكنني واصلت العمل، موقناً بأن الكتابة فعل تحد ذاتي بالأساس، وعلى القارئ العربي أن يتعرف على أساليب وأشكال وأنواع روائية مختلفة عما اعتاد عليه، أن تعجبه هذه الأساليب أم لا، هذا موضوع آخر، لكن المهم أن يتعرف.. * القارئ لروايتك ورواية دفاتر الوراق للأردني جلال برجس الذي نافسك في سباق البوكر يكتشف تقارباً في الاتكاء على خلفية ثقافية واحدة، أعتقد لو أصدر أحدكما روايته قبل الآخر بفترة زمنية معتبرة لاتهم بسرقة الآخر، هل قرأت الرواية وما انطباعك؟ * أنا مع الرأي القائل بأن روايات القائمة القصيرة لهذه السنة تكمل بعضها لتمنح صورة شاملة عن الواقع العربي المعاصر. انطلقت كل رواية من زاويتها الخاصة لتضع بصمتها في لوحة فنية شديدة التميز والثراء، كلنا ننطلق من خلفية واحدة هي الواقع العربي المعطوب، وإن تغيرت أسماء بلدانه. تتشابه "دفاتر الوراق" للأستاذ جلال برجس مع "الملف 42" في وجود شخصيات اخترقت الحدود الفاصلة بين الأدب والحياة لتتماهى مع الخيال بشكل كامل، ربما لأن الأدب وسيلة فعالة لمواجهة سلسلة من الخيبات التي مني بها الإنسان العربي. إبراهيم الوراق الذي يتقمص شخصيات روايات شهيرة في تاريخ الأدب العالمي والعربي، ثم رشيد بناصر وكريستين ماكميلان ورفيق خالدي وزهير بلقاسم ولبنى العفوي، الذين كرسوا حياتهم للأدب، فاحتل الجزء الأكبر من حواراتهم وتفكيرهم وربما أحلامهم، يؤمنون بالرواية قبل الحياة، بالخيال قبل الواقع، ويعتبرون كل ما عايشوه من أحداث مجرد تكرار أو تناسخ لمشاهد روائية سابقة. الحضور الروسي موجود في الروايتين معاً وإن اختلفت طريقة المعالجة، لكن السبب واضح: الأدب الروسي فرض نفسه وبقوة في خريطة الأدب العالمي، ومن البديهي أن يشكل الجزء الأهم من وعي أي كاتب معاصر، خاصة في منطقة مثقلة بالأزمات كمنطقتنا العربية، حيث يجد الكتاب والقراء العرب أنفسهم اليوم، في نسخة كربونية من روسيا القيصرية قبل قرنين، كما وصفها العبقري دوستويفسكي بالضبط. * لقد خرجتُ بنظرية بعد قراءتي لعدد من الأعمال الجيدة في السنتين الأخيرتين، وهي أن الأدب الجيد يكتبه هواة الأدب من اختصاصات خارج "معاهد الأدب" وهذا ما أنقذ كساد الأدب العربي في السنوات الأخيرة، إلى أي مدى يمكن لهذه النظرية أن تكون صحيحة؟ * أميل -من وجهة نظري- إلى الفردانية في نظرتي للتجارب الأدبية، لكل كاتب ظروف وحيثيات معينة، تتعلق به هو شخصياً، يكون لها تأثير على تجربته، وهذا قبل الخوض في التفاصيل المتعلقة بمحيطه وباقي الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العامة، ولكن رغم ذلك، أعتقد بأن لي تفسيراً خاصاً يتماشى مع ما تفضلتِ به: عموماً، يكتب المنتمي ل"معاهد الأدب" وهو مكبل بالمدارس والمناهج النقدية التي درسها أكاديمياً، سواء كان ذلك عن وعي مسبق أم لا، فيقع في فخ الكتابة وفق ضوابط المنهج، وهذا ما يقتل فكرة الإبداع المتحرر أصلاً من كل قاعدة، فنجد أنفسنا أمام تكرار لمعضلة الحصان والعربة، من يفترض به أن يقود الآخر؟ هل يوجه الناقد الروائي أم العكس؟ ربما يكتب المنتمون لمدارس غير أدبية وهم متحررون من كل هذا، وفق نظرتهم الشخصية للإبداع، وحبهم الفطري للأدب، بعيداً عما قاله النقاد وما يتم تلقينه في الجامعات، وهذا ما يعطي نصوصاً جيدةً عموماً. أضيف هنا فكرة لها علاقة بالموضوع، يجب الاعتراف بوجود قصور في الاطلاع حتى على المناهج النقدية الحديثة، وليس فقط الرواية الحديثة أو رواية ما بعد الحداثة، في أقطار متعددة من العالم، ولابد هنا من الإشارة إلى الدور الفعال للترجمة في تقليص الفجوة (وهي موجودة فعلاً، لا داعي للإنكار) بين الأدب العربي الحديث وباقي الآداب العالمية، الأدب كائن حي يتطور باستمرار، إن ارتكن للسكون فسوف يضمر تدريجياً، ويكفي أن ألخص هذا بفكرة أشار لها الكاتب العراقي محسن الرملي وأذكر معناها هنا: أدب أمريكا اللاتينية واصل تطوره، ولم يبق حبيس الواقعية السحرية (رغم بصمتها المفصلية في الأدب العالمي)، وبدأ النقاد هناك يتحدثون عن "ما بعد الواقعية السحرية"، فيما ظل بعض الكتاب العرب حتى الآن، أسرى فكرة ترى أن الواقعية السحرية هي "آخر صرعة" في الأدب العالمي، "آخر صرعة" وقد صدرت أهم وأبرز أعمالها قبل ستين عاماً أو أكثر؟ هنا مكمن الفرق، ولهذا السبب رأى بعض القراء أن "الملف 42" رواية جديدة ومختلفة تماماً عن المألوف في الأدب العربي، وهناك من ذهب أبعد من ذلك ليقول بأنها ليست رواية أصلاً! * ما شدني لروايتك شعوري باحترامك لقارئك، أخبرني كيف تتخيل قارئك وأنت بصدد الكتابة؟ * أحب أن أكتب وأنا أتخيل قارئاً أذكى مني بكثير، ما يعني محاولة بذل كل ما في وسعي للتعامل معه بما يحترم ذكاءه، لن يرضيني ولن يشرفني أبداً أن أحتقره أو أتعامل معه بفوقية، لن يضر ذلك سوى بمستوى ما أكتب. عبدالمجيد سباطة